
لم يقتصر الجدل حول زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع موسكو، ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على طبيعة الملفّات المعقّدة والخلافات والمصالح المشتركة بين البلدَين، ولا حتى على البراغماتية التي أظهرها الطرفان، فروسيا كانت داعماً رئيساً لنظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وللجرائم التي ارتكبها بحقّ الشعب السوري، وهو النظام الذي أسقطه حراكٌ قاده الشرع نفسه. لكن سرعان ما تحوّل النقاش مادّةً للجدل، على خلفية إدانة بعض السوريين المحسوبين على الحكم الجديد للمقاومة الفلسطينية في مراحل سابقة، بسبب علاقات مشابهة كانت تربطها بروسيا وإيران وحزب الله. غير أن تبدّل الأدوار والمواقف والأزمان دفع هؤلاء إمّا إلى الصمت، وإما إلى التغاضي عن خطاب “المبادئ التي لا تتجزأ”، الذي كانوا يشهرونه سابقاً في وجه خصومهم السياسيين، لينتقلوا إلى مربع التنظير للبراغماتية وخطاب المناطق الرمادية والمصالح العليا. في المقابل، لم يفوّت أنصار المقاومة الفلسطينية الفرصة، فشنّوا هجوماً مضادّاً بأثر رجعي، كاشفين تناقض الخطاب وازدواجية المعايير.
لا تهدف هذه المقالة إلى تحليل خلفيات زيارة الشرع موسكو التي لا تزال تحتضن الهارب بشّار الأسد، وبعض أركان نظامه المنهار، ولا إلى تفكيك دلالات مصافحة يد بوتين التي تقطر منها دماء السوريين، ولا إلى مناقشة حديثه عن “علاقات ثنائية ومصالح مشتركة تربطنا مع روسيا” التي تحتل أجزاء من سورية عبر قواعدها العسكرية، فهذه مسائل قيل فيها كثير. ما يعنينا هنا ذلك التشنّج، وتلك الشوفينية، لدى سوريين وفلسطينيين، ممّن يطالبون الآخرين بتفهّم ضروراتهم وإكراهاتهم المشروعة، بينما يعجزون عن تفهّم ضرورات غيرهم وإكراهاتهم. وهكذا، ينتهي بنا الحال إلى تسجيل نقاط رخيصة في مرمى كل طرف، من دون أن يدرك الجميع أن المرمى الذي تُسجَّل فيه الأهداف واحد: مرمانا جميعاً، حتى وإن خُيِّل إلى بعضهم وجود مرميَين أو أكثر. إنه فنّ تمزيق هذه الأمّة فوق ممزَّقها، وإنهاك هذا الجسد فوق إنهاكه. ومن دون رتوش أو مجاملات، هذا فنٌّ هابط ورخيص.
روسيا كانت داعماً رئيساً لنظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وللجرائم التي ارتكبها بحقّ الشعب السوري
ثمّة منطلقٌ أساسٌ ينبغي الإقرار به: الأمّة العربية، وعلى مدى عقود طويلة، تحوّلت إلى قطع شطرنج متناثرة لا يجمع بينها ناظم، سوى تلك الوشائج العاطفية والوحدوية التي تختزنها الشعوب بفطرتها السليمة. أمّا النظام الرسمي العربي، ونقولها تجاوزاً، إذ إن هذا النظام نفسه فتات وأجزاء متنافرة متصارعة، فهو أحد أخطر أدوات ضمان بقاء العرب شعوباً وفرقاً وقبائل شتى. من هنا، لا عجب أن نرى تناقضاً بين مصالح الدول القُطرية العربية، واستتباعاً بين بعض شعوبها. هذا بالضبط ما جرى في السياقَين الفلسطيني والسوري خلال العقد ونصف العقد الماضيَين، وينسحب على تجارب أخرى، كما في لبنان والعراق واليمن. لكن توصيف الواقع الكئيب شيء والقبول به شيء آخر. أمّا محاولة ترسيخه وتبريره والدفاع عنه، فذلك يدخل في خانة الانحطاطين، القيمي والأخلاقي، فضلاً عن البلاهة، أو قل: العمالة الاستراتيجية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار التعقيدات التي تواجهنا أمّةً، واضطرارنا أحياناً إلى البحث عن مقاربات لم نكن نقبل بها في الظروف الطبيعية. هنا تبرز مسألة الإكراهات، وضرورة إيجاد مساحات للتفهم والموازنات، من دون الإضرار بماهيتنا الجمعية ومصالحنا العليا. المقاومة الفلسطينية، بعمومها من دون نفي وجود استثناءات، حين وضعت يدها في أيدي نظام الأسد وإيران وحزب الله، إنما فعلت ذلك من منطلق الضرورات التي فرضها غياب الرديف الاستراتيجي من داخل جسد الأمّة نفسها. كانوا يبحثون عن عمق استراتيجي وفّره هؤلاء، لكن ذلك لا يبرّر أبداً تورّط أيّ منهم في سفك دماء السوريين أو العراقيين أو اليمنيين، ولا تبريره. السوريون أنفسهم خبروا ذلك خلال ثورتهم، وترسّخ أكثر بعد انتصارها. خلال الثورة، وضع كثيرون منهم أيديهم في أيدي الولايات المتحدة وأنظمة عربية مناهضة لروح الحرية والكرامة في الفضاء العربي. ثمّ بعد الثورة، وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى استرضاء واشنطن، ومفاوضة إسرائيل التي تحتل أرضهم وتقتل شعبهم، والآن التودّد إلى روسيا نفسها. والعيب كله في أن يصرّ بعضهم على التمّسك الآثم بمعايير مزدوجة، ولسان حالهم: “حلال عليّ لأني مُكره، وحرام على شقيقي العربي المُكره هو أيضاً”.
لا أزعم أنني قادر على إيجاد صيغة وحدوية تجمع شعث صفّنا وفرقة كلمتنا في خضم هذا الواقع الآسن، لكن ليس أقلّ من أن نكفّ عن تعميق جراحنا، وعن تشتيت صفّنا، وأن نحاول أن يتفهّم بعضنا إكراهات بعض. أمّا الساعون إلى فرقتنا، وتبرير عجزنا، وتسويغ تنابزنا وتجميله، فهؤلاء هم سقَط المتاع، مهما كانت مواقعهم، ومهما بلغت شهرتهم.
المصدر: العربي الجديد