خطاب بلا فلسطين… حين دفن ترامب حلّ الدولتَين

أحمد قاسم حسين

بعد عامين من الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزّة، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها منذ عقود، اعتبرت اللجنة الدولية المستقلّة للتحقيق في الأراضي الفلسطينية المحتلّة التابعة لمجلس حقوق الإنسان في تقريرها الصادر عن الأمم المتحدة في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) أن ما يحدث في القطاع يمثّل إبادةً جماعيةً مكتملة الأركان تستهدف الوجود الفلسطيني بذاته. ورغم تعدّد الجهود الدولية المبذولة خلال العامَين الماضيين، فإنها عجزت عن وقف آلة القتل والدمار الإسرائيلية في فلسطين، إلى أن تدخّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر اتفاق وقف إطلاق النار، وهو الذي يسعى إلى تقديم نفسه صانعاً للسلام العالمي، والزعيم الوحيد القادر على إيقاف حروبٍ عديدة يأتي عليها في خطاباته.

ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، الذي فُرض بضغط أميركي، قُدّم بوصفه نهاية “العمليات القتالية”، فإنه في جوهره لم يكن سوى وقف “مؤقّت” لآلة الإبادة التي استهدفت المدنيين العزّل عاميَن، تحت غطاءين سياسي ودبلوماسي ودعم عسكري مطلق من الولايات المتحدة. ولا تزال ذاكرة الفلسطينيين تحتفظ بصورة الرئيس الأسبق جو بايدن الذي هرع في الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، عقب “7 أكتوبر” (2023) إلى تل أبيب، فعقد اجتماعاً هو الأول من نوعه لرئيس أميركي مع المجلس الوزاري الأمني المصغّر (الكابينت) في إسرائيل، مؤكّداً دعمه المطلق العمليات العسكرية الإسرائيلية. ثمّ جاء الرئيس دونالد ترمب ليسدل الستار على مشهد الإبادة الجماعية في غزّة بخطابه أمام الكنيست الإسرائيلي متباهياً بدعمه المطلق وتماهيه الكامل مع الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل، ومتجاهلاً آلام ومعاناة الفلسطينيين.

يفيد تقرير “قطاع غزّة بين الإبادة الجماعية والتهجير… عامان من الحرب الممنهجة”، الصادر عن مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني، بأن إسرائيل قتلت حتى سبتمبر/ أيلول 2015 أكثر من 65 ألف مدني فلسطيني، بينهم 18 ألف طفل، و12 ألف امرأة، إضافة إلى آلاف المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم. ويعيش 85% ممّن نجوا من المجازر تحت خط فقر متعدّد الأبعاد، في ظلّ انهيار شامل للقطاع الصحّي، إذ تجاوز عدد الجرحى مائتي ألف شخص في بيئة طبية مدمرة تماماً. أمّا الخسائر المادية، فقد بلغت وفق تقرير البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة نحو 49 مليار دولار حتى يوليو/ تموز 2025، إذ دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي 463 ألف وحدة سكنية، منها 292 ألفاً مدمّرة بالكامل. كما اضطر نحو 1.9 مليون فلسطيني إلى النزوح القسري عن منازلهم، وتحوّلت غزّة من حالة “انعدام الأمن الغدائي” في 2024 إلى إعلان رسمي لحالة المجاعة خلال عام 2025.

لم يقتصر التجاهل الأميركي للإبادة الجماعية على قطاع غزّة، بل طاول ما يجري في الضفة الغربية، التي تعيش في ظلّ مشروع تهويدٍ متسارع

اللافت أن هذه الأرقام المفزعة التي تعكس معاناة الفلسطينيين لم تجد مكاناً في خطاب الرئيس ترامب أمام الكنيست، الذي شكّل لحظة رمزية في التحوّل من الانحياز الأميركي التقليدي، والدعم العسكري المطلق لإسرائيل عبر الإدارات السابقة، إلى التماهي الأيديولوجي الكامل مع اليمين المتطرّف الإسرائيلي وتوجّهات الحكومة الحالية. فترامب لم يأتِ، رغم اتساع نطاق الكارثة في قطاع غزّة، على ذكر الفلسطينيين لا ضحايا حرب، ولا شعباً يرزح تحت الاحتلال، بل تجاهلهم تماماً وهو المفتون بالأقوياء ولا يلقي بالاً للضعفاء، كأنهم تفصيل فائض في معادلة القوة الإسرائيلية الأميركية. بل الأدهى أنه لم يطرح مقاربة حلّ الدولتَين التي شكلت عقوداً الأساس النظري للموقف الأميركي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والمبدأ الذي تحرّكت ضمنه مسارات التسوية منذ اتفاق أوسلو (1993) وحتى إدارة جو بايدن.

لقد مثّل تغييب حلّ الدولتَين من خطاب ترامب وطاقمه تحوّلاً بنيوياً في الرؤية الأميركية للصراع، من أنه نزاع سياسي قابل للحلّ إلى أنه معركة حضارية تحسم بالقوة والقوة فقط. فالخطابات الأميركية، حتى في أشدّ مراحل الانحياز لإسرائيل، لم تتخلَّ عن الصيغة الدبلوماسية التي تقرّ بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم على الأراضي المحتلة عام 1967. بل إن عددا كبيرا من الدول الغربية أعاد من خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة التأكيد على هذا المبدأ في مؤتمر خاصّ لإحياء مقاربة حلّ الدولتَين، واعترفت بعض تلك الدول بالدولة الفلسطينية. ورغم الطابع الرمزي لتلك الاعترافات، فإنها تمثل تأكيداً سياسياً وأخلاقياً على أن وجود دولة فلسطينية مستقلة لا يزال شرطاً جوهرياً لأيّ سلام عادل ودائم.

تغييب حلّ الدولتين من خطاب ترامب تحوّل بنيوي في الرؤية الأميركية للصراع من نزاع سياسي إلى معركة حضارية تحسم بالقوة

لم يقتصر التجاهل الأميركي للإبادة الجماعية على قطاع غزّة، بل طاول ما يجري في الضفة الغربية، التي تعيش في ظلّ مشروع تهويدٍ متسارع يشمل مصادرة الأراضي، وتوسيع المستوطنات، وربطها بشبكة طرق وحواجز تفصل القرى والمدن الفلسطينية بعضها عن بعض. وقد صادق الكنيست، في 23 يوليو/ تموز 2025، على مشروع قانون يدعم ما يسمّى “فرض السيادة” على الضفة الغربية، بما فيها غور الأردن، حيث يقيم نحو 700 ألف مستوطن إسرائيلي. ففي حين يروّج ترامب “السلام الإبراهيمي” و”الازدهار الإقليمي”، تمضي إسرائيل في تنفيذ نظام رقابة وسيطرة خانق على الفلسطينيين في الضفة الغربية، يمتد من المدن الكبرى كرام الله ونابلس والخليل إلى أصغر القرى. هذا النظام، الذي يجمع بين أدوات الاحتلال العسكري والتكنولوجيا الأمنية المتقدّمة، حوّل الضفة الغربية أرخبيلاً من الجيوب المعزولة التي تُدار بالتحكّم من بُعد، في محاولة حالمة، وقد انهارت أمام صمود سكّان غزّة في مواجهة مشروع تهجيرهم، لتفريغها ديموغرافياً وتكريس واقع الضمّ بحكم الأمر الواقع.

الملاحظ أن ترامب لا يعيد إنتاج الموقف الأميركي فحسب، بل يؤسّس مرحلةً جديدةً من الإقصاء السياسي للفلسطينيين وعدم الاعتراف بحقوقهم السياسية التي كفلتها القوانين الدولية، يُستبدل فيها منطق “الحلّ السياسي” الذي ترعاه قوة دولية عظمى بمنطق “الصفقة”، وتُختزل فيها المأساة الإنسانية في غزّة والضفة معاً إلى هامشٍ في طريق “صفقة القرن” التي لم تمت في الوعي الترامبي، بل أُعيد إحياؤها على وقع أنقاض غزّة ومصادرة ما تبقى من أرض الضفة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى