
متلئ الصدرُ غضباً، والنفسُ اشمئزازاً، من كلام المديح الذي كالهُ دونالد ترامب للسفاح بنيامين نتنياهو في الكنيست، حتى يخال المرء أنه في كابوس سوريالي غير ذي صلة بالواقع. اخترع الرئيس الهمايوني انتصاراً وهمياً للقاتل ليس له في شيء، إذ لم ينتصر نتنياهو وعصابته الصهيونية إلا في القتل العَمْد للمدنيين وفي المذابح الإبادية المتوالية بلا انقطاع طوال سنتَين، ولم يخض جيشه معاركَ قتال، بل قتْل، ولم يقتحم جبهات، بل دمّر عمراناً وعلِق في الكمائن، فأين رأى ترامب انتصاراً إسرائيلياً؟… لا أحد يعلم، ولا هو دلّ بالبيّنة (وبالقرينة) على الانتصار المزعوم الذي من المؤكّد أنه تردّد في الخطاب من باب التعويض عن هزيمة عسكرية مدوّية داخل قطاع محاصر، مدمّر، مجوّع، ومنكّل به. صوره ترامب انتصاراً ليحاول إقناع العالم بالجريمة الإبادية التي حصلت، واصفاً إيّاها في الخطاب الديماغوجي عينه بأنها كانت “دفاعاً عن النفس”، بيد أن محاولة الإقناع هذه لم تنطلِ بالتأكيد على الرأي العام العالمي (لو سلّمنا بأنه شاهد جلسة التهريج وسمع الخطاب المنافق)، ولم يُسر به إلا جحا وأهل بيته، أي الرئيس الأميركي وأركان كيان الإبادة.
من مدائح ترامب نتنياهو أنه “ليس هيّناً في التفاوض”، ولذلك فالشكر مضاعف له: “شكراً، شكراً بيبي، لقد أبليت بلاء حسناً”. حرص ترامب طوال خطابه على مخاطبة نتنياهو بـ”بيبي”، كمن يدلل حبيباً، ويشكره على “البلاء الحسن”، ولم نعرف أيَّ بلاء حسن هو، سوى أن نتنياهو هو البلاء بعينه (عدا بلاء الصمت العربي المشين). وكان نتنياهو الوحش جالساً مبتسماً بمكره الإجرامي المعهود مثل ملك على العرش، يسمع من شاعر البلاط قصيدة مديح، والشاعر المهرّج المدّاح كان ترامب، يفيض مديحاً للقاتل لتلقّي كيس الدنانير من المليارديرة الأميركية الصهيونية ميريام أديلسون، التي حضرت في الكنيست، وهي كثيرة التبرّع بالمبالغ الضخمة للكيان، ولترامب نفسه من أجل حملته الانتخابية، وقد عرضت عليه صفقةً مقابل ضمّ الضفة للمدعوة “إسرائيل”. وبلغت المهزلة أقصاها مع توسّل ترامب لـ”بيبي” عفواً من رئيس الكيان عن تهمة تلقّي رشىً، هي في رأيه أمور بسيطة كالسيجار والشمبانيا و”لا شيء يستحقّ”. ونهض أنصار القاتل (وهم كُثرٌ) مصفّقين بحرارة للاقتراح الفذّ، فها هو متّهم في بلاده يهبّ لنصرة أخ له من خارج الرضاعة. فالتهمة لنتنياهو بسيطة مثل التهمة لترامب بأنه كان يعاشر قاصرات لدى إبستين.
استُخدم السلاح الأميركي لتمزيق أطفال غزّة أشلاءً وقتلهم بعشرات الألوف، وبتر أطراف ألوف أخرى منهم
في هذا الخطاب الهذياني، هذى ترامب أيضاً بسلام في الشرق الأوسط، ولكن لا أحد يدري أين أبصر هذا السلام خارج إطار التمنّيات التي رسمها، والوعد بـ”الازدهار” الذي يُكثر الكلام عنه لمناسبة ولغير مناسبة، فالمعروف أنه ينظر إلى الحياة بأسرها بعين الصفقات والمال والسمسرات والمشاريع، أي بعين المقاول الذي لا يفقه شيئاً في السياسة والاجتماع والقانون والتحرر والمزايا الحضارية والإنسانية. يصمّ الآذان بالكلام عن الازدهار و”السلام الآتي بالقوة” إلى منطقة الشرق الأوسط، ولا أحد سمع من قبل بمصطلح “السلام بالقوة”، الذي لا يستقيم منطقياً، لأن القوة هي نقيض السلام، والعكس صحيح أيضاً. فما هذا السلام بالقوة الذي يبشّر به ترامب دول المنطقة، فيما لا تزال “إسرائيله” الحبيبة مرفوضة ومكروهة من كل الشعوب العربية والإسلامية، وازداد رفضها وكرهها بعد مأساة غزّة الرهيبة، بل امتدّ هذان، الرفض والكره، إلى آخر أصقاع الدنيا، وبخاصة إلى دول الغرب وشعوبها، التي كانت حتى الأمس تسير بعمىً تامٍّ مع الكيان الصهيوني، وتظنّه مستهدفاً بالإرهاب الفلسطيني والعربي الإسلامي.
مقزّز قول ترامب “إسرائيل استخدمت سلاحنا على نحو جيّد”، فيا لدواعي الفخر ومبرّراته! استُخدم السلاح الأميركي لتمزيق أطفال غزّة أشلاءً وقتلهم بعشرات الألوف، وبتر أطراف ألوف أخرى منهم، ولإحداث الدمار الأفظع في التاريخ البشري الحديث، فأين مدعاة الفخر؟ وكيف يكون جيّداً استخدام سلاح قاتل مدمّر؟ لا أحد يفهم منطق ترامب إلا ترامب. تراه يقفز إلى النتائج الكبرى بالقول: “إننا قضينا على عقود من الإرهاب في المنطقة”، فأين قضي على الإرهاب؟ وماذا عن إرهاب الدولة الذي تمارسه “إسرائيل”؟ يبدي كذلك تفاؤله الجمّ باستكمال اتفاقات أبراهام مع الدول العربية التي لم تنخرط بعد في عملية السلام الشامل في المنطقة، مقدّماً صورة وردية زاهية للتعاون (مع “إسرائيل” خاصّة) والازدهار الذي سيعمّ هذه البقعة من العالم وصولاً إلى إندونيسيا.
كان خطاب ترامب في الكنيست الصهيوني ممالقةً وتصويراً معنوياً لنصر إسرائيلي مزعوم، ووعداً خيالياً متفائلاً بسلام شامل وازدهار مقبلَين، وطمأنةً للكيان الصهيوني بأنه سيبقى قوياً، على الأقل لما تبقّى من عهده، فهو على العهد باقٍ، ووعد ميريام أديلسون بالأموال الطائلة للرئيس كان يتجدّد في نظراتها وهي جالسة في مقعد الكنيست، مبتسمةً له وغامزة.
المصدر: العربي الجديد