
يجري الكثيرون منا مقارنات ساخرة بين ردود فعل قطاعات واسعة من الشعوب الغربية تجاه حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها العصابات الإجرامية الصهيونية في غزة وفلسطين ، وبين ردود أفعال الكثير من القطاعات الشعبية العربية حيال العدوان ذاته..
وعلى الرغم من الصلات المصيرية المباشرة وليس لوحدها روابط الدم والهوية والإنتماء والتاريخ والثقافة وحتى الدين التي تربط ابناء الشعب العربي بشعب فلسطين العربي ؛ إلا أن مواقف القطاعات الشعبية العربية لم يرق إلى مستوى الخطر والتحديات..فهي أولا وقبل كل شيء تحديات تواجه المصير العربي ذاته وليست شأنا فلسطينيا فقط..ليس هذا إدعاء بل حقيقة تحملها المواقف العلنية والعملية وتصريحات مجرمي الحرب الصهاينة..ورغم أن العدوان الصهيوني يشمل كل دول الطوق المحيط بفلسطين المحتلة , إلا أن ردود الفعل الشعبية العربية في هذه البلدان العربية ذاتها التي تتعرض للعدوان المستمر ؛ لا يزال قاصرا عن الإستجابة الموضوعية لمتطلبات ردع العدوان أو الرد عليه..فلم تعد المسألة تضامنا مع شعب فلسطين بل دفاعا عن النفس والذات الوطنية..ومع ذلك ليست الإستجابة في مستوى الخطر..مما يعني أن ثمة عوائق جوهرية تعرقل تلك الإستجابة طالما أنها دفاع عن النفس وليس فقط دفاعا عن مصير عربي واحد منطلقه ما يجري في فلسطين..
وفيما لا تجمع شعوب اوروبا والغرب بفلسطين وشعبها روابط مصيرية ورغم أن العدوان الصهيوني يبقى بعيدا عن دول تلك الشعوب وأرضها ويبقى مصيرها غير مرتبط جوهريا بمصير المشروع الصهيوني ؛ إلا أن إستجابتها لرفض العدوان والتنديد به والمطالبة بالحرية لفلسطين ؛ أعلى وأرفع وأعمق وأبقى وأصرح من الإستجابات الشعبية العربية..
فما المشكلة وأين تكمن عناصر الضعف في الموقف الشعبي العربي ؟؟
ليس من الموضوعي القول أن الشعب العربي قد فقد إحساسه بانتمائه العربي وهويته العربية أو أنه تخلى عن إيمانه الديني وخلفيته التراثية الثقافية..
ومع هذا ثمة عوائق ومثبطات محبطة تمنع العربي من التفاعل اللازم والتحرك المطلوب..
وإذا إعتبرنا أن الشعوب الغربية والعالمية تتظاهر رفضا للعدوان وتأييدا لفلسطين فقط بدافع إنساني يحرك مشاعرها منظر القتل والترويع والتجويع وسفك الدماء وحرب الإبادة الجماعية والتهجير الشامل ؛ وهو لا شك صحيح ؛ فهل يعني هذا إنتفاء المشاعر الإنسانية لدى القطاعات الواسعة من الشعب العربي ؟ بالتأكيد ليس هذا صحيحا كما ليس منطقيا أو موضوعيا ..فلماذا إذن ؟؟
قبل الخوض في أسباب هذه الظاهرة السلبية ، فإن مقارنة سريعة بواقع حال الحركات الشعبية العربية قبل نصف قرن وما كانت تتمتع به من فعالية وما لها من دور وتأثير ؛ تكفي للجزم بأن جذور المشكلة الراهنة المتعلقة بضعف وتراجع دور الحركة الشعبية العربية إنما تتفرع عن أسباب تمكنت وأستحكمت في السنوات الخمسين الأخيرة من تاريخنا الحديث..
حينما إنطلقت الثورة الجزائرية في بداية خمسينات القرن العشرين ترددت أصداؤها في كل بلاد العرب دعما وتأييدا ومشاركة قتالية وتظاهرات وتبرعات..
وحينما بدأ العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 إثر تأميم قناة السويس ؛ ترددت مظاهر الإستنكار وتأييد مصر في طول البلاد وعرضها حتى بلغت مشاركة عملانية بقطع خط أنابيب النفط التي تغذي بريطانيا عبر سورية دون أي تنسيق مسبق مع القيادة المصرية..
وإثر معركة الكرامة التي شارك فيها الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية ضد العدوان الصهيوني ؛ إندلعت موجات متتالية من التجاوب الشعبي العربي مع الثورة الفلسطينية في كل البلاد ..ومن المشاركة الميدانية والقتالية..
وحينما تعرض العراق لحصار دولي ظالم وخانق ، وحينما تعرض لتحرشات النظام الإيراني وتعدياته عليه ؛ كانت المشاركات الشعبية العربية واسعة النطاق مدركة مدى خطورة المصير الذي ينتظر العراق من تحالف دولي مجرم ومتربص..
وهكذا كانت هي الحال في كل حدث يمس أمن أي بلد عربي حتى أواسط الثمانينات ؛ ثم بدأت التعبيرات الشعبية عن رؤيتها وإحساسها بوحدة المصير العربي ؛ تتراجع تدريجيا إلى أن بلغت الحد غير المتكافىء مع مستوى الأخطار حاليا…
فما هي أسباب هذا التراجع وما حدث حتى فقدت الحركات الشعبية بريق فعاليتها ؟
لا شك أنها جملة متغيرات تفاقمت وتفاعلت وأدت إلى مثل هذا التراجع ..بعضها يتعلق بأوضاع محلية عربية – أو معظمها – والآخر راجع لأسباب خارج نطاق الوضع العربي..
ومن الموضوعية القول أن مجمل المتغيرات العربية سببها سياسات دول وأنظمة سايكس – بيكو الإقليمية العربية..هذا النظام الإقليمي الذي ما أقيم وتأسس إلا للوصول إلى مثل هذا التراجع..مادته الأساسية القمع والتخويف ومحاربة كل أنواع التعبير عن وحدة المشاعر العربية والمصير العربي..وسيلته مصادرة الحريات وإضطهاد كل حركة شعبية ومنعها من ممارسة أي حق في التعبير أو مشاركة حتى أنبتت رعبا بات متأصلا في النفس العربية عامة ..رعب الأضطهاد والتنكيل ومصادرة الحياة ومحاربة الأرزاق والحرمان من الوجود ؛ أنتجتها جميعا سياسات الإقليمية المتسلطة والقهرية والوظيفية..فتلك إحدى مهامها المطلوبة منها حتى لا تسقط وينتفي مبرر وجودها عند القوى الدولية التي أقامتها وترعاها..
ولقد حرصت أنظمة الإقليمية على أمرين أساسيين نجحت في تحقيقهما فساهما في إضعاف فعالية الحركات الشعبية :
الأول : محاصرة التنظيمات والمؤسسات الشعبية ، أحزابا ومنظمات ، والإلتفاف على قياداتها بكل الوسائل حتى إستطاعت إحتواءها وتطويعها وبالتالي التحكم في توجهاتها ومواقفها التي باتت تساير الإقليمية وتجاريها ، ما أدى إلى تراجع شعبيتها تدريجيا وفقدانها بالتالي قدرتها على توجيه الناس والتأثير فيهم وتحريكهم..حتى صارت أشبه بالديكورات الصامتة التي لا تلفت الأنظار حتى..
الثاني : إستعاب النقابات المهنية والإتحادات ذات المستوى العربي ، وتطويعها حتى باتت جزءا من النظام الرسمي والسياسة الإقليمية وتعجز عن ألتعبير عن حد أدنى من مهام برامجها الوطنية والقومية..فإنتفى كل دور لها في التأثير والتوجيه والمشاركة فبهتت كما الأحزاب وتراجع دورها تماما..
وإذا أضيف إلى هذا ، تلك السياسة الرسمية الممنهجة المتمثلة بإشغال الحياة العامة لأبناء الشعب بأمرين أساسيين يتكامل دورهما في صرف إهتمام المواطنين عن أية قضية مصيرية محلية وطنية أو عربية قومية :
الأول : إغراق الناس في تفاصيل متطلبات المعيشة وكسب الرزق بعد إصطناع مشكلات يومية تستهلك عقل وجهد ووقت المواطن في تأمين مستلزمات المعيشة له ولعائلته دون القدر الأدنى من الرعاية الرسمية وتأمين آحتياجاتها..
الثاني : إغراق المجتمع بالعصبيات الإنقسامية من كل نوع وإعلاء شأنها لتكون معيارا للتعامل ولإختيار المواقف وتصنيف الأحداث وأهميتها..مما أقعد مجتمعات كثيرة وكبلها بتلك العصبيات بديلا عن التفكير والإهتمام بالمشترك الوطني أو القومي..
وأذا كانت جميع هذه العوامل من صنع الواقع العربي والقوى المؤثرة والفاعلة فيه ؛ فإنها تحالفت – ولا تزال – مع سياسات النظام الدولي الرأسمالي الفاسد والإمبريالي من جهة ؛ ومع منتجاته وأدواته التي تسوق لأفكاره وسياساته ومفاهيمه ومواقفه ؛ أو ما بات يعرف بالعولمة ؛ من جهة ثانية..
فالنظام الدولي بإمتداداته وأدواته المتنوعة يمثل عدوانا مباشرا على الشعب العربي وتطلعاته التحررية والتوحيدية والتقدمية..فيستخدم إمكانياته الهائلة في التأثير والتوجيه والتلاعب بالأحداث والعقول وإستثمارها ؛ ليفرض مزيدا من القيود على الفعل الشعبي وقواه المتاحة ؛ ومزيدا من الشلل الناجم عن التشتت والعصبيات الإنقسامية والمناحرات الشخصانية والفئوية..
أما قدرات التأثير المرعبة التي تمتلكها العولمة الرأسمالية وما تسوقه من مفاهيم الذاتية الفردية المادية النفعية الإستهلاكية وقيمها السلوكية ؛ فباتت من أكبر أسباب الشلل والعجز في التفكير والتقييم وتوجيه ردات الفعل والتصرف حيال الأحداث ؛ بما تزرعه في متابعيها عبر وسائل الإعلام المتنوعة وما يسمى وسائل التواصل الإجتماعي ؛ من إهتمامات فردية وتفكير شخصاني ومحرضات غرائزية وتسليط الأضواء على كل ما هو تافه وسطحي وهامشي وسخيف ؛ تؤدي إلى تشكيل إنسان لا ينتمي إلا إلى ذاته همه تأمين مستلزمات إشباعها المادي والغريزي دون إهتمام بما هو أبعد من ذات الفرد ومعاييره الأنانية..
كما أن سنوات طويلة من العمل التعاوني المشترك المعبر عن تحالف الإقليمية والنظام العالمي الراسمالي الفاسد ؛ سوقت لما يسمى بثقافة السلام وإهتمامات بناء السلام على غير أسس واضحة أساسها العدل والحق ؛ فقط ثقافة سطحية عائمة تتوهم سلاما غير ممكن وتلهث وراءه ؛ تستهلك طاقات شعبية متنوعة وتغرقها في البحث عن سراب ..مما أبعدها عن أي إهتمام بمتطلبات العمل الوطني والتفاعل معها والتجاوب الفاعل معها..تغذي كل هذا آلاف الجمعيات الممتدة على طول البلاد العربية وعرضها ؛ أجنبية أو ممولة من مصادر أجنبية ؛ تعمل في مزيد من التمزق وتشتيت الطاقات والإهتمامات والتطلعات أيضا..مما يساهم في إستيعاب من بقي فيهم شيء من حماسة وطنية وإيجابية عملية ومشاعر إنسانية..
تحالفت جميع هذه الأسباب مدعمة بأنظمة للقهر الأمني والإستخباراتي ؛ لتكبل الإنسان العربي وتربكه وتصادر إمكانياته في التفكير السليم والوعي الآيجابي والتجاوب التنفيذي مع مستوى تحديات وجودية عدوانية تتجلى تظاهراتها بوضوح فج في فلسطين وغزة..
خلاصة القول أن المواطن العربي الذي يخضع لكل أنواع القهر ، قهر الحياة وقهر الأجهزة ؛ محروم تماما من أي مقدار من حرية التعبير وحرية الحركة والفعل..بالمقارنة مع إنسان المجتمعات الغربية والعالمية الأخرى الذي يطمئن إلى حياته وغده وأمنه ومعيشته فيتمتع بحرية سياسية تحمي حقه في التعبير ؛ وحرية إجتماعية تصون له كرامته وحقوقه وحياته فيطمئن بها على وجوده ومستقبله..على عكس المواطن العربي..وحتى حينما لا يكون العربي مهددا بمعيشته مستنزفا بتأمينها ؛ فإنه واقع تحت كم هائل من الرعب الذي يهدد حياته ومصيره بل وجوده ذاته..
أليس هذا أوان تصحيح مسارات المؤسسات الشعبية والآتحادات النقابية والمهنية لتعود إطارا يفعل دور الإنسان ويعزز وعية ويضمن مشاركته العملية الفاعلة في مسارات الأحداث ؟؟؟..
المصدر: كل العرب