كم هو هشٌّ وضعيف بناءُ القيم الإنسانية والمبادئ الطبيعية في عالمنا الحداثيّ، كما لو أنه حائط طينيّ أمام السيول الجارفة للمصالح والرغبات المتوحشة، لعلّه الاكتشاف المتأخر لمن لا يزال يحلم بالحرية والعدالة، ويعتقد بأنّ ثمّة حرّاس لمعبد الحقيقة ما يزالون يرفعون لوائحهم السماويّة في وجه الأشقياء والعابثين بأمن العالم وسلامه، وبراياتهم البيضاء يمنعون تقدّم جحافل الظلم.
لقد حلّت المتغيّرات محلّ القيم والثوابت الطبيعية، وتنحت الحقيقة مفسحة المجال للأوهام المضللة، فمنذ أن تمّ الفصل بين المعارف والعلوم وبين حواملها القيمية والتربوية، واستبدلت الأولويات الكلية بالتفاصيل المغرقة في ماديتها وغرائزيتها بات العالم مقلوباً يمشي على رأسه، وغدت للأحذية السميكة مدبّبة الحواف أنصابٌ تتوسط الساحات ويتهافت العبيد على تقديسها والتبرّك بها.
على مدى الحياة ومنذ أن اكتمل الخلق تبوّأ العقل مكانه الطبيعي في أعلى هامة الإنسان المنتصب ليكون سيّداً مقرّراً ومرشداً وموجهاً، آمراً وناهياً. لقد استقرّ الدماغ محميّاً في جمجمة الرأس فيما توضعت أدواته، أي السمع والبصر وبقية الحواس، في مراكزها القريبة منه بحيث لا تفصل بينها وبينه سوى سنتيمترات قليلة، لا يستغرق استقباله لإشاراتها ومعلوماتها أكثر من لحظات يكاد لقصرها ينعدم الزمن.
لا يمكن للأدوات أن تدرك طبيعة الأشياء وأن تمارس الفعل دون قرارٍ سيّدها والمتصرف بأمرها، إنّ مركز الدراسات والأبحاث وإصدار القرار هو الدماغ الذي هو أيضاً مستودع للمعارف والخبرات المتراكمة. فكثير من المسائل لا تحتمل المغامرة والتجريب، ويمكن الحكم عليها بالمنطق المجرّد، لم يعد الإنسان مضطراً للمخاطرة بوجوده للوصول إلى البدهيات فالسمّ مميت كذلك فإنّ النار محرقة.
ما أسوأ أن يتخلّى العقل عن موقعه وسلطته لتغدو حياة الإنسان ومصير الأرض رهناً بمن يفكّر بعينيه وأنفه ومعدته..، هل شاخ العقل البشري أم إنّ من يتحكم بالسلطة والثروة وبالتالي في حياة الأرض والإنسان هو الذي هرم وأصابته الآفات والأمراض المزمنة المستعصية على الشفاء فأصبح ينتعل دماغه بحذائه؟!
ينسى الطغاة تاريخهم فيسحقون بأحذيتهم اللامعة بقايا آدميتهم المتسخة، يتجاهلون اليقين بأنّ المصالح الحقيقية تلك التي يقررها العقل الجمعيّ للمجتمع البشريّ وهي بالتأكيد لا تقتصر على إشباع الحواس والغرائز الطبيعية الآنية، ولا تخصّ فرداً أو طائفة أو شعباً دون غيره، وينكرون أن المصالح التي ينبغي الانطلاق منها هي مصالح إنسانية شاملة تخصّ البشر جميعاً، وبهذا المعنى هي مصالح كونيّة تتجاوز كوكب الأرض إلى الفضاء الكونيّ بسماواته وشموسه ومجرّاته.
إنّ من يتحكّم بالمصائر الآن هم أقلية من الحمقى تستأثر بالثروات وتهيمن على الحكومات والأوطان، وتستعبد الناس وتتلاعب بمصير الكون ونظامه، أمّا الطيبون فهم وقود لمحركات عرباتهم الذاهبة بالعالم نحو المجهول. إنّه يمضي وبخطى مسرعة نحو حتفه هذا العالم.
بتنا نحن البسطاء أرامل هذه المرحلة الحالكة. نعيش بعيداً عن الروح الذي فارق أشياءنا، أفكارنا وقصائدنا وحكاياتنا، ولعبنا المخادعة التي سرعان ما تخبو أو تنكسر. لعله، الروح، آل على كينونته الابتعاد عن التلوث في مستنقع الدمّ أو أن يكون شريكاً في مسرح الإثم، فآثر النأي إلى منفى، جزيرة ما أو قمّة باردة، تعصمه من حمى الجنون والعبث بكلّ شيء، بالماضي والحاضر وبما يمكن أن يبدّد الحلم بشمس يوم جديد.
الوقت يسيل على إيقاع اليأس والعجز، ويرمي ماءه الأسود فوق صخرة الوجع الإنسانيّ، تنمو في الصدر وتكبر أدغال الخوف، تتسع رقعة الموت في صحراء تجرّدت سماواتها من النجوم ومن سحر الحلم، وخلت واحاتها من الأصدقاء ومن مُتعٍ كانت إلى وقت قريب عادية خفيفة وممكنة.
ثمّة مقصلة تنتظر الأعناق الممدودة نحو الضوء. لا يمكن لكوخ خشبيّ متداع أن يصمد في مواجهة العواصف العاتية، نحتاج أكثر من مجرّد التمترس خلف هشاشتنا وضعفنا الإنسانيّ النبيل، والتغنّي بمجد الأسلاف، نحتاج أن نتجاوز بنيتنا الرمليّة وتشكيلاتنا المتذررة المبعثرة.
يمكن لنا بمنطق العقل المتجدّد أن نحقق وحدتنا وأن نستعيد حقوقنا وما فقدنا من آدميتنا، أن نكون حرّاساً لحقيقتنا الإنسانية ولمبادئنا وقيمنا، ويمكن لإرادتنا الخيّرة أن تشكل ملاطاً نستطيع به أن نعجن الرمل لنبني جدارا يملك من الصلابة والقوة ما يكفي لصدّ أمواج الطغيان، والانتصار على الأعاصير المدمّرة. حينذاك فقط يمكننا الحديث عن الأمل.
المصدر: اشراق