في أحوال اليسار المغربي… أسئلة وانتظارات

كمال عبد اللطيف

                                                                           

يرتبط الحديث هنا عن راهن اليسار المغربي وأحواله بأسئلة الانتظارات السياسية في واقعنا. وينصبّ اهتمامنا على كيفيات تطوير آليات عمله، في مجتمعنا وثقافتنا. ويهمّنا التفكير أساساً في القضايا التي تسمح بتوسيع (وتدعيم) منطق الفكر التاريخي وأدواته، وثقافة التحديث السياسي داخل مجتمعنا. ذلك أننا نُسَلِّم بأن لليسار في بلادنا سمة بارزة تميِّزُه من باقي تيارات الفكر والسياسة، فهو سَليلُ نظرة تعتمد مبدأ المُعاينة التاريخية للظواهر والأحداث، قصد فرز وتشخيص نوعيات الصراع الدائر في المجتمع.

(2)

تشابهت اليوم في مشهدنا السياسي أغلب برامج الأحزاب السياسية، اختفى اليمين واليسار والوسط، كما اختفى المحافظون القدامى والجُدد، ولم تعد أصوات اليسار مسموعة. اصطف الجميع من دون مرجعية نظرية محدّدة، في وقتٍ بدا فيه أن النظام السياسي القائم يواصل تسييره للمشهد الحزبي والسياسي بموافقة الجميع ورضاهم. في مقابل ذلك، يتواصل عزوف الشباب وفئات أخرى من المجتمع عن العمل السياسي الحزبي، رغم انخراط بعضهم في بناء مشهد احتجاجي في وسائل التواصل الاجتماعي. مشهد موازٍ للواقع الفعلي في جريانه.

(3)

ترتبط قوة اليسار المغربي في مشهدنا السياسي خلال سنوات الاستقلال الأولى بنوعية تجذُّره في التُّربة الاجتماعية المغربية، فقد ساهمت طلائعه الأولى في الانخراط في بناء شعارات ومعارك الحركة الاستقلالية المغربية، الأمر الذي سمح بترسيخ حضورها التاريخي في مجتمعنا. والإشارة هنا إلى الإرهاصات القوية للتقدّميّين المغاربة، الذين ساهموا في تأطير حركة التحرير المغربية زمن الاستعمارَين الفرنسي والإسباني، وأسّسوا ما عُرف بالأفق التقدّمي في قلب الحركة الوطنية، أفق أخويات التحرير والتنوير والتقدّم.

يتواصل عزوف الشباب وفئات أخرى من المجتمع عن العمل السياسي الحزبي، رغم انخراط بعضهم في بناء مشهد احتجاجي في وسائل التواصل الاجتماعي

(4)

صلابة التحدّيات التي يواجهها اليسار اليوم، في محيط العمل الحزبي داخل مشهدنا السياسي، تعادلها صلابة أخرى ترتَّبت من تجربته في العمل السياسي. يتعلّق الأمر بتركة الخلل التنظيمي التي تَحْمِلُها كثيرٌ من أحزابه وتيّاراته، كما نشير إلى عدم قدرة كثير من مُكوّناته على تجاوز إرثه التقليدي، في كيفيّات التعامل مع تحوّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا. إضافة إلى ذلك كلّه، يُواجِه اليسار جملةً من الأحكام المُسبقة عن تياراته وعن معاركه وخياراته، من دون أن يُكلِّف نفسه عناء الالتفات إلى صراعات الراهن، التي تحمل في بعض أبعادها جوانب مُحدّدةً من تركة عقود من أخطائه التاريخية في التصوّر والممارسة.

(5)

تَحْكُم مظاهر الصراع السياسي والاجتماعي في مجتمعنا اليوم آليات جديدة، تقتضي من النخب اليسارية تطوير خياراتها وشعاراتها وأنماط عملها، والعمل على استيعاب مختلف التحوُّلات التي يعرفها المجتمع المغربي. فلا سبيل اليوم لمقاربة أسئلة مجتمعنا في السياسة والثقافة والإصلاح والتغيير بمفردات ترتبط بسياقات تاريخية أخرى، ذلك أن إرادة التغيير يسبقها دائماً، كما نتعلّم من التاريخ، وعي التغيير، ولا يكون ذلك ممكناً من دون ابتكار اللغة المناسبة والمفردات المُساعِدة في فهم ما يجري في تجلياته ودلالاته المختلفة.

إرادة التغيير يسبقها دائماً وعي التغيير، ولا يكون ذلك ممكناً من دون ابتكار اللغة المناسبة والمفردات المُساعِدة في فهم ما يجري في تجلياته ودلالاته المختلفة

(6)

نفهم أعطاب اليسار المغربي ضمن سياقات مركّبة ومعقّدة، نفهمها في محيطنا المحلّي والإقليمي، كما نفهمها في سياقاتها الكونية المرتبطة بمآزق اليسار في العالم وأزماته. وتبرز هذه الأعطاب في التشرذم الذي لا مُبرِّر سياسيّاً له، كما تبرز في عدم قدرته على ابتكار اللغة المناسبة للتحوّلات الجارية في المجتمع المغربي. نقرأ الأعطاب بلغة التاريخ، ونفكّر في تجاوزها أو التقليل من آثارها السلبية بالمنطق نفسه، إذ يمكن بناء (وإنضاج) الاقتراحات والإجراءات المساعدة على تخطّيها. ويمكن أن يُسجّل هنا أن أغلب تيارات اليسار لم تنتبه إلى مقتضيات الشروط التاريخية الجديدة، التي أصبحت تحكم المتغيّرات الإقليمية والدولية، ولم تتمكّن طلائعها من تطوير تصوّراتها وأساليب عملها بما يناسب هذه التحوّلات، وقد أصبحت تستدعي اليوم بناء آليات أخرى في التنظيم والتعبئة وفي المبادرة والعمل.

(7)

ساهمت فترة التناوب التوافُقي في المغرب (1998-2007)، التي قاد أغلبيتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بما لها وما عليها، إضافة إلى عوامل أخرى وطنية ودولية، بعضها يرتبط بالمآزق التي نتجت من التوظيف السياسي لمبادئ الإسلام في معترك العمل السياسي، الأمر الذي ساهم في منح تيّار الإسلام السياسي ما ساعده في عملية تعزيز أنماط حضوره في مشهدينا الحزبي والسياسي، فعمل على توظيف الأشكال الدعوية والتنظيمات الخيرية، مستقطباً عديدين من الشباب وفئات اجتماعية أخرى، قصد الاستفادة من حالة التشرذم التي عمّت مختلف أحزاب اليسار في مجتمعنا.

(8)

تُظهِر معاينة أحوال اليسار المغربي (سواء في تنظيماته، أو في إعلامه ولغته، أو في نمط انخراطه في المجال الافتراضي وصُور استخدامه الوسائط الاجتماعية)، بصورة أو بأخرى، بعض صور التصلُّب التي لحقت أنماط حضوره في مشهدنا السياسي. وضمن هذا السياق، نفترض أن جوانب عديدة من مظاهر فقره النظري تعود إلى إهماله مختلف الروافد الثقافية التي نعرف أنها منحته خلال مختلف أطوار تشكّله الأولى القوة واليناعة اللتين كان يتمتّع بهما.

تعزيز الحضور السياسي لليسار رهين بتوحيد صفوفه وبناء قطب ديمقراطي جديد

(9)

انتفاضة اليسار المنتظرة اليوم على أحواله، وعلى لغته ومواقفه، إذ تغيب وَتُغيَّب مظاهر التموقع السياسي اليساري من كثير من جوانب مشهدنا السياسي، لتترك مجتمعنا للقوى المحافظة ولأحزاب الإدارة، وقد استأنست اليوم بحضورها الصوري، الذي ساهمت عقود القهر في سنوات خلت في منحها الشرعية المصطنعة. كما ساهمت تقلّبات الزمن وحسابات النظام السياسي القائم في جعلها واقعاً لا يمكن التخلُّص منه. يقتضي مطلب تعزيز الحضور السياسي لليسار داخل مجتمعنا مواصلة العمل على مزيد من ترسيخ قيم التحديث، ولا يصبح ذلك ممكناً من دون رفع حالة التشرذم وبناء قطب سياسي يكون بإمكانه بناء مرجعيةٍ وأفقٍ في العمل السياسي، لا يفصل فيهما بين مطلب الحرية والحريات، والقانون والمؤسّسات، ومطلب العدالة والمساواة.

(10)

نتحدّث اليوم رغم مختلف مظاهر التراجع الحاصل في واقع اليسار، عن ضرورته في مشهدنا السياسي، بحكم أنه خيار سياسي مشدودٌ إلى طموحات تاريخية كبرى ومتنوعة، تُعادل تطلّعات مجتمعنا إلى التغيير والإصلاح، وذلك بعد التجارب كلّها التي تحقّقت أو أخفقت في التاريخ. إننا لا نتحدّث عن وصفة سحرية، ولعلّنا نتحدّث بالذات عن خيار مفتوح على ممكنات الإبداع السياسي، فأسئلة التاريخ وتجاربه تُعدُّ في نظرنا الإطار المُناسب لمعاينة طموحات البشر وآمالهم، بل وصراعاتهم المتواصلة، من أجل بناء مجتمعات أكثر عدلاً وأكثر توازناً.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى