
فى عصر السرعة الفائقة، تبدو التغيرات فى السياسة، والاجتماع الإنسانى ناعمة في تمددها ، وتغير كل ما ألفته أجيال الحداثة، وما بعد بعدها ، وفى عالم الإناسة الروبوتية وآثاره التحولية إلي مابعده . غالب المفاهيم والنظريات والفلسفات فى العلوم الاجتماعية، وبعض الطبيعية فى تغير، وتندثر مصطلحات، وتتدفق على نحو متلاحق مصطلحات جديدة، وظواهر غير مألوفة فى السياسة، والثقافة، والقيم السياسية والاجتماعية، والرؤى للذات الفردية، وللجماعات والمجتمع، والنظرة للعالم ، والحياة والشرط الإنسانى، والمعنى فى الحياة.
لم تعد غالب الأنظمة اللغوية والاصطلاحية السائدة قادرة على الوصف أو الكفاءة التحليلية لمقاربة هذه الظواهر الجديدة التى تبدو فى أعماقها دالة على تغيرات نوعية وجودية.
بات الذكاء التوليدى، وعالم الروبوتات، يتداخل فى الحياة الإنسانية من مفهوم السياسة ،والدولة القومية، ومؤسساتها، وسلطاتها إلى الحروب وأصبحت الحرب السيبرانية وتحولاتها علامة تحول من التجسس على المعلومات، والأسرار، والشخصيات، وأنظمة التسليح وأسرارها، من خلال المركبات الجوية غير المأهولة (Unmanned Aerial System) (UAS) التي تشمل الطائرات وكل أنظمة التحكم والاتصال، أو ما يطلق عليه Drone الدرون، وهى تسمية شائعة، وأيضا الصواريخ فائقة التدمير للمنشات على نحو ما حدث فى ضرب إسرائيل وأمريكا المواقع النووية الإيرانية الثلاث ، وفى اغتيال السيد حسن نصر الله فى الضاحية الجنوبية وثلاثة مستويات قيادية في حزب الله .
التغيرات فى الحروب وحسمها عن طريق الذكاء التوليدى، والطائرات المسيرة “الدرون”، هى علامة على تحولات فى أنظمة التسليح، والحروب، وسيتزايد بقوة حضور الذكاء التوليدى، والروبوتات فى الحروب القادمة على نحو يقلص نسبيا من دور أنظمة التسليح ،والجيوش التقليدية. ستتزايد أدوار حروب العصابات، على نحو ما تم من المقاومة الفلسطينية فى حرب العامين ويزيد فى قطاع غزة، لاسيما فى المقبل من الصراعات فى الدول الأفريقية، وأمريكا اللاتينية ..الخ .
تأثيرات ثورة الذكاء التوليدى، والروبوتات باتت تمثل فجوات بين القادة العسكريين والاستراتيجيين فى الدول الأكثر تقدما فى عالمنا، ومن ثم اجيال (Z)، وآلفا وبيتا فيما في العقود اللمقبلة من العسكريين، الذين سيمثلون نقلة فى التفكير العسكرى، والتخطيط للحروب، وفى الأداء القتالى. من ناحية آخرى سيلعب الذكاء التوليدى دوره فى تحليل الأنظمة المعلوماتية والعسكرية للخصوم، وفى كيفية التعامل المضاد معها هجومًا ودفاعًا، وأيضا فى تطوير الأنظمة التسليحية.
من هنا سيؤثر ذلك على هيكل الأعمار، والأجيال داخل الدول العظمى من الولايات المتحدة، لأوروبا الغربية والناتو والصين، وروسيا، وسيمتد ذلك إلى الجيوش الأخرى فى جنوب العالم.
الذكاء التوليدى، والروبوتات، سيحدث تغييرًا فى المؤسسات الأمنية داخل دول العالم المتقدمة، والمتوسطة، والمتخلفة. لم تعد أنظمة المراقبة قاصرة على المتابعة الشخصية للشخصيات التى تمثل تهديدًا للأمن الداخلى السياسى، والجنائى، ولا المتابعة الرقمية للهواتف النقالة، ولا برامج التجسس وبرامجها الرقمية، ولا كاميرات الرصد فى المنازل والشوارع، ومؤسسات الدول والشركات، والمطاعم، والقطارات والسيارات …إلخ، وإنما يلعب الذكاء التوليدى والرقمنة دورًا فى تطوير تقنيات مكافحة الجرائم، ورصدها وتوثيقها، وربما سيلعب أدوارًا فى التحقيقات السياسية والأمنية، والجنائية، وفى التوثيق وتحليل الوقائع التى تشكل جرائم دولة من الداخل أو الخارج، أو جرائم جنائية من مثيل السرقة، والنصب، والقتل والضرب ، والرشوة ، والاختلاس، والاتفاق الجنائي … إلخ
ثمة إمكانية محتملة لأن تقوم برامج الذكاء التوليدي، والروبوتات بتوقع أنماط الجرائم وأسبابها في ضوء البيانات الضخمة وتحليلها وبناء السيناريوهات حول أنماط الجرائم وأماكنها ، وإجراء التحقيقات مع المتهمين، فى ضوء المعلومات حول الجرائم المرتكبة أيا كانت! قد يبدو ذلك محض تصورات متخيلة الآن ، إلا أن سرعة تطور الذكاء التوليدي تشير إلى إمكانيات تحققه بسرعة.
من ثم ستؤدي هذه التحولات إلى تغييرات واسعة فى السياسة الأمنية، والجنائية، وأيضا فى المسئولية الجنائية فى حال الأخطاء التى قد يقع فيها الروبوتات، أو برامج الرقابات الرقمية، ومن ثم هل تقع المسئولية على الروبوتات أو البرامج، أو الشركات الرقمية المنتجة لها! أم على الدولة، ووزارات الأمن الداخلي أو الاستخبارات.
سيؤدي ذلك إلى نظريات جديدة للمسئولية القانونية، وقوانين الإثبات، وقوانين العقوبات والإجراءات الجنائية.
لا شك أن هذه التحولات المتسارعة فى الذكاء التوليدي ستتطلب إعادة النظر فى سياسات التعليم الشرطية والأمنية، وفى برامج التدريب والتكوين لرجال الشرطة، وللأجهزة الأمنية أيا كان مجال اختصاصها . ثمة أفكار جديدة حول برامج المراقبة الرقمية، وانتهاك الحق فى الخصوصية، لاسيما فى ظل تمدد الرقابات الرقمية لتفاصيل الحياة اليومية، وخاصة فى ظل عمليات التصوير بالهاتف المحمول للأفراد ، وذلك فى مساحات واسعة من تفاصيل الحياة الفردية، والاجتماعية. من ثم تثور مسألة تحديد المسئولية عن انتهاكات الخصوصية، والحريات الفردية. تشير التحولات التقنية نحو مرحلة ما بعد الإنسان إلى اتساع الفجوات الجيلية بين أجيال Z وآلفا، وبيتا –جيل 2025- في التفكير والتكيف مع الذكاء التوليدي، وفى التعليم، والثقافة التوليدية، على نحو يؤدى إلى تمردها علي الأجيال السابقة، في الأسرة، والعمل، والنظام، والأهم النخب السياسية الحاكمة، وفى المعارضة، والأحزاب السياسية، وفى تغيرات مفهوم السياسة، والسلطة لدى الأجيال الجديدة وهو ما ظهر فى الحركات الرافضة لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التى كشف بعضهم عن رفض المقولات المسيحية الصهيونية لصالح النزعة الإنسانية والأخلاقية، وأيضا فى مظاهرات جيل Z ) ( فى المغرب، الرافض للسياسة الحكومية فى التعليم، والخدمات الصحية، والفساد فى الوظيفة العامة- هذه التظاهرات كاشفة عن فجوة التفكير بين نخبة المخزن والأحزاب السياسية، وبين جيل Z الذي وظف التقنيات الرقمية فى التعبئة ، والدعوة للتظاهر للمطالبة بالتغيير السياسى.
ستتزايد الفجوة السياسية بين الأجيال الجديدة، وبين النخب السياسية القادمة من نهايات القرن الماضي ومعهم الإيديولوجيات الكبري التى تداعت، وتفككت، ولا تهتم بها الغالبية العظمى من أجيال z وما بعد.
مفهوم السياسة الحداثى، وما بعده فى طور التآكل، ومن ثم سيشمل مفهوم القومية، والسيادة وستغدو السيادة ليست مرتكزة على الجغرافيا السياسية والحدود، والاستقلال، وإنما السيطرة على البيانات الضخمة، والمعلومات، والأهم العقل السياسى الرقمي القادر على التعامل مع التغيرات الرقمية والاجتماعية والاقتصادية، من خلال تطوير السلطات السياسية، والأهم مع الأجيال الجديدة.
عالم مختلف تماما يتشكل بسرعة فائقة، ولا تزال هناك نخب سياسية أسيرة لسياجات فكرية وسياسية موروثة من نهاية الحرب الباردة، بينما ثورة الذكاء التوليدي يفكك موروثات ما قبله!
المصدر: الأهرام