الدولة والليبرالية، وتحدى الروبوتات

نبيل عبد الفتاح

القفزات التكنولوجية فائقة التطور فى كافة المجالات، وخاصة الذكاء الاصطناعى التوليدى، والروبوتات ، والثورة الرقمية تعيد تشكيل أنماط الحياة وتفاصيلها  فى عالمنا، وخاصة فى الدول الأكثر تطورًا، وعلى نحو تدل المؤشرات الحالية والمتنامية على اننا نقترب حثيثاًا من قطيعة مع عالم الحداثة  ، وما بعد بعدها، وأيضا تغيير فى الظواهر التى ارتبطت بعولمة العالم والأسواق، وهى تغيرات أدت إلى تحولات فى النظريات والمفاهيم، بل واللغة الفلسفية والسوسيولوجية والقانونية، والسياسية والاقتصادية والثقافية . من ثم لم تعد قادرة  الأنظمة اللغوية وأساليبها التى اعتدنا على استخدامها، فى الوصف، والتحليل لما يجرى حولنا، على إمدادنا بفهم لما يجرى حولنا، وخاصة فى دوائر الثقافات العربية، من حيث القدرة على تعريب المصطلحات الجديدة فى عديد المجالات، وفى ذات الوقت يغلب على بعض الفكر العربى السائد حالة من التوهان التاريخى –وفق وصف أنور عبدالملك- وبعض التشوش إزاء ظواهر تداهمنا، وسرعان ما تتحول إلى جزء من مشاهد الحياة، وأنماط التفكير وغالبُ العقل العربي يبدو حائرًا تجاهها  وتدهمه الغرابة الحاملة لها .

لم تعد علاقة الإنسان بالدولة، والسلطة، والبيئة ،والحريات، والليبرالية كما كانت قبل العولمة وبعدها ، والأهم تفاقم مشكلة المعنى، والشرط الوجودى الإنساني فى الحياة، خاصة فى ظل عالم الإناسة الروبوتية، ومؤشرات التحول إلى ما بعد الإنسانية، بالنظر إلى تنامى، وتمدد وتطور فائق السرعة، للروبوتات التى باتت تمارس أدوارا هامة فى الطب، وتشخيص الأمراض والقيام بالعمليات الجراحية الدقيقة . ويقوم الذكاء الإصطناعي التوليدي بدور بارز في مجال التخطيط العمرانى، والهندسى فى العمارة، وفى الحلول محل الإنسان ، والأفعال التى كان ينهض بها فى تفاصيل الحياة، على نحو يضع مفهوم العمل الإنسانى، موضعًا للتساؤل وأثر ذلك على الحياة الوجودية، واحتمالات الاغتراب الإنسانى الواسع النطاق مع خروج مئات الملايين قريبا من أسواق العمل لصالح الروبوتات، والذكاء الاصطناعى.

تتناسل الأسئلة الجديدة، والاستثنائية، وغير المألوفة التى لا إجابات على بعضها حتي الآن، لأنها مفتوحة على عالم يتحول سريعا، والأهم يولد مع كل تحول أسئلة جديدة ومختلفة.

أنظمة الذكاء الاصطناعى التوليدى، باتت تلعب أدوارًا ووظائف  كان العقل والفعل الانسانى، ينهض بها، كالتفكير، ووضع الأسئلة، والسعى لتقديم إجابات عليها، وهو ما سوف يؤدى إليه تطور هذه الأنظمة فائقة السرعة والتطور .

الذكاء الاصطناعى التوليدى، يساهم في صناعة السينما، والموسيقى، والأدب، وفى الفن التشكيلى فى إنتاج اللوحات، بل وفى إبداعها، وهو ما سوف يضع مفهوم الإبداع، والابتكار الذى ارتبط بالعقل، والمواهب الإنسانية موضعًا  التساؤل، بل والإزاحة. الذكاء الاصطناعى التوليدى يقوم بدور كبير فى الدراسات الأكاديمية فى مجال العلوم الاجتماعية، وفى إعداد أطروحات نيل درجات الماجستير والدكتوراة، وأبحاث الترقى الجامعية، وهو ما يعنى أن العقل التوليدى يحل محل العقل الإنسانى الاكاديمى فى المستقبل وخاصة فى بعض أو غالب الجامعات العربية المتخلفة أساسا ، هذا التمدد الخطر، سيؤدى إلى عطالة العقل العربى فى مجال الرياضيات، والفيزياء،  حيث يتمدد دور الذكاء الاصصطناعى التوليدى.

لا يقتصر فقط التطور العلمى الفائق السرعة للذكاء الاصطناعى التوليدي ، والثورة الرقمية، وعالم الروبوتات على مجالات البحث،، والفكر، والفن، والإبداع، والعلوم الطبيعية والإنسانية، ولكن أيضا فى مجال الحروب، والتجسس، والرقابات ،والاختراقات لأنظمة المعلومات الاستخباراتية، وإنما فى المساهمة فى التخطيط العسكرى، وفى صناعة الصواريخ، والقذائف  كثيفة التدمير والقتل ، وفى الطائرات المسيرة، وتحديد المواقع المستهدفة، وفى تطوير أنظمة التسليح، والتدريب، ومن ثم التركيز على  حسم الحروب من خلال الطائرات المقاتلة المتطورة، أو من الطيران قبل التدخل البرى ،وفي الدفاعات الأرضية الذكية المتطورة من ثم تعظيم حجم الخسائر البشرية،و المادية، واللامبالاة بالقانون الدولى، والمنظمات الدولية والإقليمية، على نحو ما تفعل دولة الإبادة الجماعية إسرائيل على الاراضى الفلسطينية والسورية المحتلة بعد طوفان الأقصى وانهيار نظام الأسد ، وهي أراض محتلة بعد عدوان الخامس من يونيو ١٩٦٧ .

لا يقتصر أثر الثورة الصناعية الرابعة، على كل هذه المجالات، والتفاصيل المؤثرة على الشعوب، والأفراد فقط وإنما أيضا تمتد إلي الليبرالية، والرأسماليات الغربية والعالمية ، والعدالة، والحريات، والمؤسسات السياسية، خاصة إنها تواجه منذ مرحلة العولمة العديد من الأزمات الكبرى المستمرة، والتى تتراكم، وذلك لما يلى:

1-  اتساع سلطات الشركات الرأسمالية الكونية، والإقليمية، والوطنية، في اتخاذ القرارات الأساسية المؤثرة على السياسات الاقتصادية للدول، على نحو بات مؤثرا عليها، وتحول الشركات الضخمة الكونية إلى سلطة فوق الدول القومية. من ناحية أخرى وهن قدرات الدول، والأنظمة السياسية والحكومات على تلبية احتياجات مواطنيها، بل واثر المصارف الكبرى كونيا، على تحديد أسعار الصرف، والفوائد، والقروض.. إلخ.

لا شك أن هذا الدور الذى يتعدى الدولة القومية، يتزايد خاصة فى ظل تنامى دور الرأسماليات الرقمية الكبرى، ووظائفها، وميزانياتها وأرباحها الضخمة. تستخدم الشركات الرقمية الكبرى البيانات الضخمة Big Data، فى تحليلها، وتوظيفها فى التأثير على اتجاهات السلوك الاستهلاكى لمليارات البشر من كل الثقافات والمجتمعات، وفى توجيهها، وبيع المعلومات إلى الشركات الكبرى فى مجال الإنتاج، والاستهلاك، والخدمات، بل إلى الدول من خلال أنظمة التجسس على بعض مواطنيها ورقابتهم!

من هنا تبدو قدرات الشركات الكونية الرقمية مؤثرة على الدول ووظائفها، وباتت السلطة منفصلة عن السياسة، وفق زيجمونت باومان ، لأن المؤثر الأكبر على السياسة بات نسبيا مع عولمة الأسواق وإلى الآن  يخضع للشركات الرقمية الكونية.

2- الذكاء الاصطناعى التوليدى لا يزال إلى حد كبير خاضعا للسيطرة، إلا أن المؤشرات تشير إلى إمكانية عدم القدرة من الدولة، والسلطة السياسية فى الدول الكبرى على السيطرة على الوظائف والأداء والسلوك من الذكاء الاصطناعى، وهو ما قد يشكل احتمالا مستقبليًا، حتى فى ظل السيطرة الحكومية على الذكاء الاصطناعى التوليدى، بل وإمكانيات محتملة لظهور إختراقات لأنظمته من خارج الدول من هنا تتزايد الحاجة الكونية إلى ضرورة وضع اتفاقات دولية حول أخلاقيات، ومعايير ضبط الأنظمة الروبوتية، والذكاء الاصطناعى التوليدى، لتستمر تحت السيطرة، وحتى لا تخضع لبعض مغامرات من الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، أو لبعض الأفراد.

3- تبدو النزعات الشعبوية، والعرقية والقومية المتطرفة ردود أفعال على أزمات الطبقات السياسية الغربية ما بعد الحرب الباردة، والتداخل فى المصالح بين بعضها، وبين المصارف الضخمة، والشركات الكونية. من ناحية أخرى أدت حرية الاستهلاك المكثف إلى هيمنتها على الحريات الاستهلاكية الخاضعة لسياسة المصارف، والشركات الرأسمالية الضخمة فى مجال إنتاج السلع والخدمات . من ثم باتت الدولة، والسلطة السياسية – الحكومات – خاضعة لتأثيراتها، على نحو يؤدى إلى رفع معدلات الضرائب، والتضخم، والبطالة ،ومن ثم إلى اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية فى الدول الأكثر تقدما، لان الآليات الليبرالية فى تمثيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتعبير عنها باتت غير قادرة على ذلك، ومن ثم تتزايد المطالب فى بعض الدول الليبرالية العريقة – في أوروبا وفرنسا علي سبيل المثال -بضرورة ادخال بعض الإصلاحات إلى بنية النظام الليبرالى.

5- أدت الأدوار المتعاظمة للشركات الرأسمالية الكونية فى استغلال مصادر الثروات الطبيعية، إلى الاحتباس الحرارى، والاختلالات البيئية، ومعها ظهور فيروسات غير مكتشفة على نحو ما تم مع فيروس كرونا المتحور، وأدى إلى سياسة الإغلاق الكلى، والجزئى حتى الوصول إلى إمكانيات السيطرة عليه، وإيجاد علاج له.

هذه الاختلالات البيئية، باتت تشكل خطرًا على الوجود والحياة الإنسانية، خاصة فى ظل سلطة الشركات الرأسمالية الكونية، وتجاوزاتها النسبية للدول الكبرى والسلطات السياسية، أو بالتوافق معها لأسباب اقتصادية وربحية. لا شك أن ذلك مرجعه تأثيرات هذه الشركات على الدول والسلطات الحاكمة، وهو ما يشير إلى أزمات الدول والسلطات وانفصالها عن السياسة وفق زيجمونت باومان فى حالة الأزمة، والتى ربما تجاوزت تحليله الهام فى هذا الصدد.

العالم  الذى عشناه، وعهدناه أثناء الحرب الباردة وما بعدها، وعالم الحداثة  وما بعدها، لم يعد كما كان، ومن ثم تتوالد أسئلة جديدة تحملُ معها صدمات التطورات التقنية والعملية فائقة التطور والسرعة، ولم تعد غالب التحليلات السوسيوسياسة، والفلسفية قادرة على الاستجابة لتواتر وتفاقم الاسئلة المغايرة والاستثنائية. فى عالم مختلف تماما عما عهدناه.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى