في إشكاليات الاعتراف بالدولة الفلسطينية

محمد سي بشير

من مفارقات ما يجري في غزّة منذ “طوفان الأقصى”، الذي أطلقته المقاومة بكلّ فصائلها، انفلات عقد سرديّات الغرب والكيان، كليهما، فلا المحرقة بقيت بسرديّة التقديس في الوعي الغربي، ولا الصهيوني بقي كائناً فوق القانون وغير قابل للانتقاد، بل تحوّل الكيان بلداً يقترف (للمفارقة) ما عاش هو نفسُه يتّهم به النازية، من الإبادة المخطّطة والمتعمّدة، وهذا على مستوى العدالة الدُّولية ذاتها التي شهدها العالم تُعاقِب النازيين بعد الحرب العالمية الثانية. ومن بين السرديات التي سقطت، تلك المتصلة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذ بقيت هذه الدولة من دون صدىً منذ إعلان قيامها في 1988 في الجزائر، وقد سمعنا آنذاك أنّ الاعتراف لا أساسَ قانونياً له من حيث غياب أركان القانون الدولي من وجوب توفّر عناصر الأرض والسُّلطة والشّعب والاعتراف الدولي، ليكون ذلك جامعاً لمطلب قانوني يعرف الجميع أنّه ما أدّى إلى اتفاقات أوسلو، التي استبدلت بالدولة الفلسطينية السلطة، وعيوب انقطاع التواصل الجغرافي، وغياب الاتّفاق حول مسائل حيوية على غرار المياه، ووضع القدس، وحدود جغرافيا السُّلطة، إضافة إلى استمرار الاستيطان في التوسّع إلى درجة أنه حوّل تلك الجغرافيا مجرّد دولة في عمارة لا تسيطر على شيء إلا ما يسمح به الكيان للسلطة، وهو التّنسيق الأمني، أو المناولة الأمنية، التي قبل بجزء منها ياسر عرفات، ولكنّه علم بالأهداف من ورائها، فانقلب عليها، ليُحاصَر إلى غاية موته، ولينفّذ خلفه محمود عبّاس كل ما يُطلب منه، وصولاً إلى القطيعة مع حركة حماس وغزّة والمقاومة، في سيناريو لم يكن حتى الكيان يحلم به بكل تفاصيله.

من الإشكاليات التي يطرحها الاعتراف بالدّولة الفلسطينية، ضبابية جغرافية هذه الدولة

السّردية الأخرى التي سقطت هي عودة الوعي إلى العقل والرأي العام الغربيَّين، والأوروبيَّين على وجه الخصوص، بعد تغييب إعلامي وفكري سطا عليه جهاز من المثقّفين والسياسيين والإعلاميين، أصحاب التوجّه الصهيوني داخل تلك المجتمعات، والطابور الخامس في الدفاع المستميت عن كل مداخل الانتقاد للكيان الصهيوني، أو مجرّد الاقتراب من سردية بكائيات المحرقة التي قام عليها الكيان، وصعد بها إلى درجة التقديس، وأحاطها بهالة من الاعتبار والاحترام. طبعاً، لم تسقط سردية المحرقة، بل ما سقط إشكاليات مرتبطة باستحالة أن يقوم ضحية المحرقة بمحرقة أكثر إيلاماً بحقّ شعب فلسطيني سُرقت منه أرضه في 1948، واحتلت جيوباً لجأ إليها فيها، غزّة والضفة الغربية، ثمّ مُنع من العودة، ومن حقّ إقامة دولته، بل من حقّ الحياة بأشكالها كلّها، بأكثر من جريمة سطّرها الإعلام، ووصل الأمر إلى تحديد حجم الإنسان بـ”الكالوريهات” في التّغذية، بما يقيم صلب الناس في غزّة، وهي قمّة الجرائم، من دون أن ينطق أحد ممّن نسمعهم يدافعون عن الحيوان والمناخ، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا حدث تجاوز في حقّ قطّة أو كلب، في مكان ما.
من ناحية ثالثة، سقطت سردية كبيرة، وهي حصانة الكيان من الانتقاد والتجريم، وهو ممّا كان لا يمكن تخيّله قبل “طوفان الأقصى”، عندما رُبط ذلك بمبدأ معاداة السامية، وسعى الكيان، ومعه الغرب، إلى تجريم مجرّد انتقاد الكيان على جرائمه في حقّ الفلسطينيين، وعربدته في طول الشرق الأوسط وعرضه. سقوط هذه السردية (رمزياً) من أكبر الانتصارات التي ما كانت لتحدث لولا سيل الدماء التي سالت، والتضحيات التي قدّمها الفلسطينيون بقصد الحصول على حقوقهم. ومع سقوط تلك السردية سقطت صفقة القرن، وأضحت في خبر كان، باعتبارها إعلاناً غربياً وأميركياً خالصاً بطيّ القضية الفلسطينية، ذلك أنه لولا تلك الصفقة لما اقتنع يحيى السّنوار بأنّ السرديات ما كانت لتسقط إلا بعمليات كبيرة على غرار “طوفان الأقصى”، بالرغم من عِلم المقاومة بردّات الفعل المحتملة من الكيان والغرب، وبمدى تبعات ما قامت به في 7 أكتوبر (2023). لكن من جهة أخرى، كانت المقاومة تعلم تمام العلم بأنّ سقوط تلك السّرديات لم يكن ليتحقّق لولا ما جرى منذ ذلك التّاريخ.
بالرّغم من سقوط تلك السّرديات، يريد الغرب إيهامنا بأنّ ثمّة إدراكاً من جانبه بوجوب فرض حلّ الدولتَين، والانطلاق في سلسلة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية، سواء على مستوى الجمعية العامّة للأمم المتحدة، أو من قوى كبرى (فرنسا وبريطانيا) أو غيرها (السويد وأستراليا وإسبانيا)، وهو اعتراف يطرح إشكاليات كبرى، لعلّ أوّلها غرابة الموقف من تلك الدول الغربية التي انقلبت من موقف مساندة بالسّلاح والسياسة والإعلام، انتصاراً للسّردية الصهيونية بشأن “طوفان الأقصى”، ودفاعاً منها عن شراسة الإبادة التي أعقبت ما جرى في غلاف غزّة في هجوم 7 أكتوبر.
نتذكّر زيارة رئيس الوزراء البريطاني في 2023، مباشرةً بعد “طوفان الأقصى”، إلى الكيان على متن طائرة محمّلة بالسّلاح والعتاد الحربي، إظهاراً لمساندة الكيان ضدّ ما سمّته بريطانيا “إرهاب المقاومة”. كذلك نتذكّر زيارة ماكرون تل أبيب، وحرصه على إظهار موقفه من الحرب على غزّة بمساندة مطلقة للكيان. بل أبعد من هذا: كيف لبريطانيا أن تعترف بدولة فلسطينية ورئيس وزرائها الأسبق (توني بلير)، عرّاب غزو العراق، هو من سيشارك صهر ترامب، جاريد كوشنر، في صفقة غزّة العقارية، بتحويلها مشروعاً اقتصادياً؟
من الإشكاليات التي يطرحها الاعتراف بالدّولة الفلسطينية، ضبابية جغرافية هذه الدولة، ذلك أنّ الكيان يريد ضمّ الضفة الغربية، والانقلاب على اتفاقات أوسلو، وصولاً إلى تهجير ساكنة الضفة وغزّة (كلّهم) نحو الأردن وسيناء، على التّوالي، مع انتشار تصريحات لترامب ولوزير خارجيته ماركو روبيو باستحالة أن تقوم للفلسطينيين دولة، وبأنّ ما ترفضه أميركا، ومعها الكيان، لن يتحقّق البتّة في أرض الواقع، وهو ما دفع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إلى وصف الأمم المتّحدة بأنّها منقوصة الشرعية الدولية بسبب تجاوزات الأميركيين والصهاينة قراراتها، وعدم الالتفات إلى شرعيتها في فرض حلول للأزمات والصراعات الدولية.
لنا في هذا المقام عبرة باتفاقات أوسلو، التي رضيت بسلطة بدلاً من الدولة المُعلَنة في الجزائر في 1988، كما رفضت الخوض في المسائل الجوهرية (المياه والحدود وحقّ العودة ووضع القدس)، وأحالتها إلى مفاوضات “الوضع النهائي”، التي حاول الصهاينة جرّ الراحل عرفات إليها في كامب ديفيد، عندما طُلب منه التنازل عن القدس، والرضا بما رضي به أبو مازن، لينتهي المقام بعرفات محاصراً حتى رحيله. كانت هذه التنازلات كلّها (القبول بلعب دور المناولة في التنسيق الأمني إضافة إلى القطيعة مع غزّة في أعقاب انتخابات تشريعية فازت بها “حماس”، ورُفضت من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيَّتَين) كفيلةً بتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحقيق مصير وإنهاء الاستيطان إلى ما يشبه فيلم “السفارة في العمارة”، بكلّ ما حمله ذلك الفيلم من رموز، لأن جغرافيا الدولة المُعترَف بها الآن، لا تكفل السّيطرة إلا على قطعة أرض بحجم مساحة دولة الفاتيكان أو أقلّ من ذلك، أي ضياع فلسطين التاريخية إلا شبراً أو شبرَين، مع جزئية قد نكون غفلنا عنها، وهي خلوّ فلسطين من المطالبين بجغرافيا دولة حقيقية، لأنهم موجودون في سيناء أو في الأردن.

لن يسمح الكيان، بحماية غربية، بقيام دولة فلسطينية بكل ما تحمله “الدولة” من معنى

نكاد نقول بالنّتيجة إن الاعترافات حبر على ورق، لأن الولايات المتّحدة لم تقبل بذلك، ولأن الكيان، بحماية غربية، لن يسمح بدولة بكلّ ما تحمله “الدولة” من معنى، ومنه فإن تلك الاعترافات، من ناحية أخرى، هي استراتيجية لإيقاف الحرب، والخروج من مأزق المشاركة في الإبادة وتبعاتها القانونية، إضافةً إلى أن ما تبع تلك الاعترافات، مطالبة الغرب لـ”حماس” وللمقاومة بإطلاق سراح الأسرى، وتسليم السلاح والقبول بالتهجير، لا أقلّ ولا أكثر.
أمّا بالنسبة إلى تسليم سلاح المقاومة، فإن تلك الإشكالية الكبرى من وراء اعترافات من دون تبعات قانونية في الأرض، وعلى مستوى القانون الدولي، لأنّها مسألة في غاية الحيوية، كما يقول فهمي هويدي في أحد مقالاته، وقد سبق لبعضهم القيام بذلك، فقُتلوا شرَّ قتلةٍ، مذكّراً بما جرى في حرب يوغوسلافيا السابقة، عندما قُتل عشرات الآلاف في سريبرينيتشا على مرأى القوات الدولية ومسمعها، وتقريباً بشكل مباشر في القنوات وفي الإعلام، بل نتذكّر ترك عرفات مخيمات الفلسطينيين في بيروت من دون حماية السلاح، وكيف أعقب ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا التي قُتل فيها آلاف الفلسطينيين.
في الختام، يمكن الاكتفاء، إلى حين توفّر ظروف مواتية في التوازن الاستراتيجي، بما سقط من سرديات، وهي كثيرة، قد تكون هي ما عجّلت بسلسلة الاعترافات هذه بالدولة الفلسطينية، ولكن لا نريد حلماً لن يتحقّق، بل نريد البقاء بالبراغماتية ذاتها، وباليقظة نفسها، للاستفادة بشكل أمثل من الصدمات التي أعقبت عملياً “طوفان الأقصى”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى