سورية الجديدة وصراع التحالفات

   عمر الشيخ

ليس جديداً أن تتنازع تركيا وإسرائيل، ومعهما الولايات المتحدة، على النفوذ في سورية. الجديد أنّ اللعبة خرجت إلى العلن بلا أقنعة كثيرة، وبحزمة دينية (هويّاتية) تُسوَّق أمناً إقليمياً لدولٍ بعينها. هذا التموضع فرض عودة موسكو إلى الواجهة شريكاً مُعلَناً في هندسة الميزان، رغم سجلّها الدموي في ذاكرة السوريين أيّام نظام الأسد. في الخلفية، يلوّح الرئيس أحمد الشرع بانفتاحٍ على روسيا، عبر حديثٍ عن تفاهماتٍ عسكرية تزامنت مع تقدّم طلائع ردع العدوان إلى المنطقة الوسطى في سورية، وتحرّكٍ نشطٍ في القنوات الرسمية بين دمشق وموسكو. والخلاصة السياسية الأولى تشير إلى أنّ روسيا لم تعد ظلّاً ثقيلاً فحسب، بل طرفاً مباشراً في صياغة قواعد اللعبة في الأرض السورية.

ينهض هنا سؤالٌ عملي ظلّ يطلّ تلميحاً في المقابلات والتصريحات، من يسلّح الجيش السوري الجديد؟ أنقرة، بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وحساباتها مع واشنطن، وتوازناتها مع إسرائيل، تتجنّب إبرامَ اتفاقاتِ دفاعٍ مشتركٍ مع الجيش الجديد، وتكتفي بحزمة التدريب والاستشارة لعناصر وقيادات الأجهزة العسكرية والأمنية السورية. أمّا الولايات المتحدة، فلا ترغب (على الأرجح) في أن يتحوّل أي مسارِ تسليحٍ إلى عنصرٍ يربك ميزانَ الردع مع إسرائيل. في هذا الفراغ، تُدفَع موسكو إلى موقعِ المورِّد الممكن والوسيطِ الثالث، عقودُ تسليحٍ وصيانة وتدريبٍ مقابل انضباطٍ سياسي وحدودٍ أمنية مفهومة، ولو كُلِّل ذلك بشروطٍ إسرائيلية تنتهك السيادة السورية من جبل الشيخ إلى جنوب البلاد، وبعض أرياف دمشق. قد لا يصرّح أحد بهذه المعادلة نصّاً، لكنّ المؤشّرات كلّها توحي بأنّ هذا هو الإطار الجاري تثبيتُه، ما لم يظهر بديلٌ يوفّر الطمأنة نفسها بكلفة أدنى على الدولة العبرية وحلفائها.

لكن السرد من أعلى الهرم وحده لا يفسّر المشهد. ما لم نلتفت إلى الصراعات الصغرى التي راكمها انعدام الثقة التاريخي بين الدولة والمجتمع، سنبقى نقرأ النتائج لا الأسباب. في السويداء، قاد سوء الإدارة إلى شعاراتٍ انفصالية من عيار حقّ تقرير المصير، والبحث عن رعاة خارجيين. هذا ليس خياراً مبدئياً بقدر ما هو استجابة لفراغ عقد اجتماعي طال انتظاره، وارتكب بعض صنّاعه أخطاءً جسيمة تحتاج وقتاً ومجهوداً للحل. وفي الضفة الأخرى، تحوّل الملفّ الكردي، بفائض السلاح والتمويل تحت عنوان محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ورقة ضغط دائمة تُستخدم في بازار الترتيبات الإقليمية، بدلاً من أن تكون مدخلاً لتسوية عادلة داخل دولة واحدة. هنا تتقاطع الإشارات الرسمية حول عدم قبول أجنحة ضمن الإدارة الذاتية مع تفاهمات سابقة، فيما يوحي بمسار تصادمي سياسي، وربّما أمني يلوح في الأفق القريب من شمالي سورية.

قاد سوء الإدارة الجديدة في ملف السويداء إلى شعاراتٍ انفصالية من عيار حقّ تقرير المصير، والبحث عن رعاة خارجيين

رغم علّاتها ونواقص شرعيتها، تبقى حكومة ما بعد الأسد في دمشق، بوصفها حكومة انتقالية، عنواناً لا يمكن القفز عنه إذا أُريد بناء دولة قابلة للحياة. القفز فوق المركز عملياً يعني تكريس هندسات فوق وطنية تدير الأقاليم والولاءات بالقطعة، وهو خيار جُرِّب خلال العقد الماضي، ولم ينتج سوى مزيد من الهشاشة. المطلوب مسار سوري – سوري يضع قواعد لعبة واضحة: توزيع مسؤوليات، وإدارة موارد بشفافية، وآليات مساءلة تعيد الأمن إلى وظيفته الطبيعية أداة حماية لا هُويَّة حكم.

إقليمياً تبدّلت الخرائط. إيران التي خرجت من مواجهتها مع إسرائيل أقلّ قدرة على التموضع العلني لم تختفِ، لكنّها انكمشت من حضور مباشر إلى شبكات منخفضة التشغيل قابلة للتفعيل عند الحاجة، مع تموضع عناصر قرب الحدود السورية – العراقية بانتظار نافذة سياسية – ميدانية مواتية. تتعامل مصر مع الملفّ السوري بهدوء وحذر؛ الأولوية لأمن حدودها، ثمّ ترتيبات شرق المتوسّط وثرواته البحرية، والحدّ من صعود الإسلام السياسي، وتعزيز خطاب “الأمن القومي العربي”، وفقاً لتعبير الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي. من هذه الزاوية، يبدو الدور الروسي أداة لضبط الاندفاعة التركية، مع إبقاء مركز سوري مرن مهيّأ لتفاهمات ثنائية قابلة للقياس. خليجياً تتوزّع العواصم بين قبول توازن ترعاه موسكو يقيّد تمدّد أنقرة، ويطمئن إسرائيل، ويضمن انسياب التجارة والطاقة، وبين إبقاء قنوات عملية مع تركيا لدوافع اقتصادية وأمنية. المحصلة؛ إدارة مخاطر وتثبيت وقائع أكثر من حسم نهائي، بما يبقي سورية مرتبطة بتفاهماتٍ خارجية مؤقتة إلى أن تتكوّن قدرة سيادية تمسك بالحدود والقرار.

ليس المخرج في تبديل أسماء الرعاة الخارجيين، بل في تغيير طبيعة التعاقد الداخلي

غربياً، القاعدة الحاكمة هي ضبط الكلفة لا تحقيق انتصار حاسم. تُستخدَم موسكو وسيطاً خشناً يضع سقفاً لاندفاعة أنقرة قرب حدود إسرائيل، ويؤمّن لتل أبيب إشارات طمأنة ثابتة، ويغلق الباب أمام أي مسار تسليح أطلسي من خلال تركيا، قد يعيد تشكيل ميزان الردع داخل سورية. وإذا تحوّل التسليح والتدريب والصيانة اعتماداً هيكلياً طويلَ الأمد على روسيا، انتقل دورها من أداة مرحلية إلى ركيزة توازن تُمسك بمفاصل القرار العسكري والتقني سنوات. لهذا الخيار كلفته، فهو غالباً ما يكرّس تجميد النزاع بدل حلّه، ويعوّم اقتصاد الحرب، ويُبقي الصراعات الصغرى جمراً قابلاً للاشتعال عند الحاجة… إنها حالة هدوء معلّق تُدار فيها النار ولا تُطفأ.

في قلب هذه اللوحة، ينهض سؤال الداخل، هل نحن أمام جيش جديد فعلاً أم إعادة تدوير بزي مختلف؟ لا يقاس الجواب بالأسماء والشعارات، بل بترتيب الأولويات داخل الثكنة. إذا ظلّ أمن السلطة يتقدّم على أمن الناس، فنحن نعيد طلاء الجدار نفسه. الجيش المعوَّل عليه يبدأ من عقيدة ترى المجتمع موضوع حماية لا مصدر ريبة، ومن سلسلة قيادة قابلة للمساءلة أمام قضاء مستقل وبرلمان وصحافة، لا أمام الاستثناء الأمني الذي يبتلع كل شيء عند أول أزمة. ثمّ تأتي مسألة المورّد التقني، الارتهان الكامل لطرف واحد (أيّاً كان) يرهن القرار الوطني لهندسة ذلك الطرف، وتوقيته، وصيانته، وذخيرته. المطلوب مرونة لا نقل تبعية من جهة إلى أخرى، تنويع مدروس يراكم قدراتٍ تشغيلية بينية وصيانة محلية، يبدأ بحِزم غير قتالية، كالإنقاذ والاتصالات وضبط الحدود، ثمّ يصعد تدريجياً.

اقتصاد الحرب هو العدو الأول لأي مؤسسة وطنية. لا يمكن بناء جيش محترف وثمّة حواجز تجبي، وكتائب خاصّة تتصرّف كسلطاتٍ صغرى، والتجنيد يُدار مكافأة ولاءٍ لا مساراً مهنياً شفّافاً. الإصلاح الواقعي يعني إغلاق دائرة الترفيق والجباية، تفكيك شبكات الأمر الواقع، وتعويض الجنود والمنشقّين بما يكفي لعودة السلاح إلى الثكنة لا إلى السوق. وأمام مجتمع متعدّد ومجروح من السويداء إلى الجزيرة فالشمال، يبقى الاختبار الأشدّ حساسية هو شكل العلاقة اليومية، إمّا ترتيبات أمن محلية قابلة للمساءلة داخل إطار وطني واضح، أو مقاولات هُويَّاتية تُدار بالقطعة، وتتحوّل سريعاً سلاحاً موازياً للدولة. الأولى تعيد الثقة وتفتح طريق القانون، والثانية تؤجّل الانفجار وتغذّي عادات الحكم بالأزمات.

المطلوب مسار سوري – سوري بآليات مساءلة، يوزّع المسؤوليات، ويدير الموارد بشفافية

أين تقف موسكو الآن؟ عملياً في موقع الموازن المفوَّض؛ تمنح العواصم الغربية طمأنة على الممرّات والحقول، وتضع حدّاً عملياً للنفوذ التركي، وتُبقي خطوط إسرائيل الحمراء واضحة. في المقابل، تتعامل مع دمشق بصيغة مفهومة، أمن مقابل نفوذ، عبر تسليح وتدريب وصيانة وحضور سياسي يضمن شريكاً منضبطاً لا لاعباً مستقلاً، لكن هذه الصيغة تبقى هشّة ما لم تُغلَق فجوة الشرعية في الداخل، فكلما تعمّق التفتت الهُويَّاتي تعاظمت الحاجة إلى إدارة تفصيلية لصراعات صغيرة، وهي إدارة يطلبها الغرب، وتقبلها أنقرة وتل أبيب على السواء.

ماذا يعني ذلك لسورية الجديدة؟ ليس المخرج في تبديل أسماء الرعاة الخارجيين، بل في تغيير طبيعة التعاقد الداخلي. المطلوب إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف على قاعدة حقوق دستورية وآليات تنفيذ، وبناء مؤسّسة دفاع بعقيدة مجتمعية ورقابة مدنية وقضائية، وتجفيف منظّم لاقتصاد الحرب. كما يلزم تنويع مدروس في التسليح والتدريب، يحرّر القرار الوطني من الارتهان لطرف واحد، وتحويل المرافئ والمعابر وملفّ الغاز إلى منافع عمومية قابلة للقياس بدل الصفقات الفوقية، وليس أخيراً معالجة حالة الاستئثار بالقرار الحكومي… عندها فقط يتراجع الاحتياج إلى موازنٍ خارجي، وتفقد الصراعات الصغرى وظيفتها أداة حكم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى