
لم يكن استخدام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كلمة “حثالة”، لنعت النائبة المسلمة ذات الأصول الصومالية، إلهان عمر، مجرّد هجوم شخصي أو نفَس انفعالي عابر. إذ عبّر هذا الوصف، وفي تغريداته العديدة التي طالب فيها بطردها من الكونغرس، عن عمق اللاشعور السياسي الغربي تجاه الآخر المختلف عرقياً ودينياً، ليصبح كشفاً صريحاً للاستعلاء المضمّن في العقلية السياسية الغربية. “الحثالة” هنا ليست مجرّد شتيمة، بل ترجمة صريحة لما يختزنه الخطاب السياسي من تحيّز وكراهية مكبوتة.
لم يكتفِ ترامب بذلك، بل وصل هجومه إلى الصومال (بلدها الأصلي)، معيّراً إياها بأصولها بقوله “تُصنّف الصومال باستمرار بين أكثر الدول فساداً، بما في ذلك الرشوة والاختلاس وحكومة غير فعّالة. هذا كلّه، وإلهان عمر تُرشدنا إلى كيفية إدارة أميركا! ملاحظة: أليست هي من تزوّجت شقيقها للحصول على الجنسية؟ يا لها من حثالة في بلدنا تُملي علينا ما يجب فعله، وكيف نفعله”… هذا من رئيس دولة تزعم أنّها تحمل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على مستوى العالم بأسره، وتصدر وزارة الخارجية فيها تقريراً سنوياً عن حالة حقوق الإنسان في دول العالم. لم يهاجم ترامب إلهان لأسبابٍ سياسيةٍ بحتة، بل حرّك شعوراً جماعياً بالتميّز الأبيض، وتعبيراً عن خوف ثقافي من الآخر المختلف، والشعور (وربّما اللا شعور) باستعلاء اجتماعي مضمّن في الخطاب السياسي، في الوقت نفسه. عندما يسأل ترامب عن غزّة والقتل والتهجير ومذبحة العصر غير المسبوقة والإبادة لملايين البشر يتجاهل ذلك، وهو صمتٌ متعمّدٌ يعكس انتقائية اللاشعور السياسي: التضخيم الغربي لأيّ تهديد داخلي أو إشكالية سياسية تواجه رموز المجتمع الغربي، مقابل تجاهل معاناة الآخرين خارج هذا النطاق.
حرّك ترامب مهاجماً إلهان عمر شعوراً جماعياً بالتميّز الأبيض، وخوفاً ثقافياً من الآخر
في هذا السياق، يصبح مفهوم اللاشعور السياسي أداةً مركزيةً لفهم هذه التناقضات، كما أشار إليها محمد عابد الجابري في كتابه “العقل السياسي العربي”، مستفيداً من أطروحات جاك لاكان عن اللاشعور؛ فالأفعال والمواقف السياسية ليست عشوائية، بل تعكس الدوافع المكبوتة والخوف من الآخر، وتتحوّل إلى سياسات وإجراءات، وتنعكس في الانتقائية الإعلامية والسياسية، وفي تضخيم الاعتداءات أو الأحداث التي تمسّ سياسات ومواقف أميركية.
هنا يأتي مثال تشارلي كيرك ليجسّد ازدواجية المعايير الغربية بشكل صارخ. فكيرك، السياسي المحافظ البارز المعروف بعنصريته ويمينيته، تعرّض للاغتيال، ما أثار ردّات فعل كبيرة، وغطّت وسائل الإعلام الحادثة بشكل مكثّف، وحرّكت ترامب نفسه على نحو واضح، في الوقت ذاته الذي يستمرّ فيه في مهاجمة إلهان عمر بالكلمات الاستعلائية، بالرغم من أنّ كيرك نفسه هو أحد العنصريين المعروفين في الولايات المتحدة، ممّن لا يتوانى عن مهاجمة المهاجرين وذوي البشرة السوداء، وحتى المرأة، لكنّه بالنسبة إلى ترامب، ويمثله من موروث ثقافي وشعوري، بطل قومي تنكّس الأعلام له. المفارقة هنا أن جون ميرشايمر، أحد أبرز منظّري العلاقات الدولية والمدرسة الواقعية الجديدة، في حديث له أخيراً، يشير إلى وجود نظرية متصاعدة في الأوساط الثقافية والسياسية الأميركية عن احتمال دور اللوبي الصهيوني في اغتيال كيرك، من دون الحسم فيها، ما يبرز كيف أن التركيز الغربي على ضحايا داخليين أو بارزين يطغى على تغطية الجرائم الجماعية الخارجية، ويكشف ازدواجية المعايير واستعلاء الغرب الثقافي والسياسي.
هذا درس لنا، وللمثقّفين في العالمين العربي والإسلامي، والعالم الثالث عموماً، في أننا كنّا ضحية هذه البروباغندا الأميركية والغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما نتجنّب النظر بعمق إلى هذه الازدواجية في القيم الأميركية والغربية، وتلقّيناها كما لو كانت أميركا حقّاً حاملةً للمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع سياقاتها. لكن الواقع يثبت أن هناك نخباً ثقافية وسياسية واسعة في الغرب لا ترى هذه القيم إلا ضمن مجتمعاتها، وهو ما يفسّر صرخة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، عندما طالب الساسة الغربيين بالنظر إلى أطفال غزّة بالمنظور نفسه الذي ينظرون فيه إلى أطفال أوكرانيا، رغم أن حجم الكارثة الإنسانية والإبادة في غزّة يفوق أيَّ مقارنةٍ بما حدث في أوكرانيا. هنا تتكشّف فضيحة القيم التي ينادي بها الساسة الغربيون والأميركيون، وهو انعكاس آخر لللاشعور السياسي والاستعلاء الثقافي تجاه الآخر.
وضح كلمة “حثالة” الاستعلاء والازدواجية وانتقائية الغرب في التقييم والتغطيتين الإعلامية والسياسية للضحايا
هذا النمط واضح في ممارسات اليمين السياسي الأميركي والغربي، الصهيونية المسيحية، وبعض المفكّرين والسياسيين الذين يستبطنون هذه العقلية تجاه العرب والمسلمين، ما يعكس صراعاً ثقافياً وفكرياً عميقاً، حين تُختبر المبادئ الليبرالية والديمقراطية أمام التعدّدية والآخر المختلف.
لم تكن نخبة من المنظّرين والمفكّرين الأميركيين غافلة عن خطورة هذه الثقافة السياسية التي يتبنّاها ويقدّمها اليمين الغربي، وتبدو المفارقةُ واضحةً عند تتبع كتابات (وأفكار) فرانسيس فوكوياما، الذي كتب عن “نهاية التاريخ” معلناً انتصار الديمقراطية الليبرالية، ثمّ عاد (في كتابه “الهُويَّة”) ليحذر من صعود سياسات الهُويَّة، ومن خطاب الترامبية الذي يهدّد الديمقراطية نفسها من الداخل، وفي الطرف المقابل، تتحقق رؤية أستاذه صموئيل هنتنغتون حول “صدام الحضارات” داخلياً: الآخر لم يعد خارجياً فحسب، بل جزءٌ من نسيج المجتمع الغربي، لكن الأخير بقي أميناً لأفكاره عن الهُويَّة (في كتابه اللاحق “من نحن؟”) ليحذّر من خطورة الهُويَّة “الهاسبنكية” (اللاتينية) على المجتمع الأميركي وهُويَّته وثقافته، التي اعتبرها متمركزة في الثقافة الأنكلوبروتستانتية البيضاء.
في الخلاصة، كلمة “حثالة” تفضح الاستعلاء، الازدواجية، وانتقائية الغرب في التقييم والتغطيتين الإعلامية والسياسية للضحايا. ومن هذا المنطلق، يصبح من الضروري لنا (نحن العرب والمسلمين) أن نقرأ هذه الظاهرة بعمق، ليس للانتقاد الفردي فقط، بل لفهم الجذور النفسية والثقافية لهذه العقلية، ولإعادة تقييم هذه الثقافة والموقف منها، وربّما البناء على الجذور الثقافية العربية الإسلامية التي يمكن أن تكون سنداً حقيقياً لقيم عالمية وإنسانية تقوم على التنوّع والاعتراف بالإنسان وتكريمه إنساناً.
المصدر: العربي الجديد