لقصف الدوحة ما بعده

  إياد الدليمي

مرَّ أسبوعان على القصف الإسرائيلي الغادر على الدوحة، واستهداف قيادات وفد التفاوض من حركة حماس. أسبوعان حملا معهما متغيّرات وأحداثاً كثيرة يجب أن تُقرأ في سياقها، ولا يبدو أنها ستتوقّف عند ما جرى، بقدر ما يمكن أن تنفتح على تحرّكاتٍ أخرى تدشيناً لمرحلة جديدة من التعاطي مع دولة الكيان الإسرائيلي عموماً، وحكومة اليمين المتطرّف بقيادة بنيامين نتنياهو على وجه الخصوص.
لقد شكّل استهداف إسرائيل الوفد المفاوض في الدوحة صدمةً كبيرة للمجتمع الدولي الذي هرع إلى إدانة ما جرى والتنديد بإرهاب الدولة الذي مارسته إسرائيل. كما شكّل هذا الاستهداف صدمة كبيرة، ليس على مستوى الشعوب العربية التي رأت فيه نموذجاً صارخاً لحالة الاستعلاء التي وصلت إليها دولة الكيان الإسرائيلي، وإنما أيضاً على مستوى الأنظمة العربية والإسلامية، الأمر الذي دفعها إلى تلبية دعوة حضور قمّة الدوحة العربية والإسلامية، التي عُقدت بعد أقلّ من أسبوع على العدوان. فلقد أدركت (وربّما كانت تُدرك أصلاً) أن يد نتنياهو، الملطّخة بدماء أهل غزّة، باتت طويلةً ومطلقةً للوصول إلى أيّ مكان تريد، بعد أن وفّر لها الراعي الأميركي سُبل الحماية والتبرير كافّة.

بقي السلام الذي تحقق بين إسرائيل وبعض الدول العربية والإسلامية سلام أنظمة لا سلام شعوب

حرم التعامل القطري، بدبلوماسيته المعهودة، نتنياهو من سرديات نصره الموهوم، ليس بسبب فشل الغارة في اغتيال الوفد المفاوض فقط، بل لأن الدوحة نجحت بحنكةٍ ودبلوماسيةٍ متميّزة في تفعيل أدواتها الناعمة لتعرية إسرائيل، التي لم تفتأ حكومتها تهاجم قطر وتتهمها بدعم “الإرهابيين” في إشارة إلى “حماس”، رغم أن هذا الوجود هو من ساهم في تحرير أسرى الكيان بعد ” طوفان الأقصى”. لا يريد نتنياهو باستهدافه الوفد الفلسطيني المفاوض في الدوحة نجاح المفاوضات، بدا ذلك واضحاً منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها حرب الإبادة على غزّة، فهذا المسكون بسرديات التاريخ وجد في “طوفان الأقصى” فرصته، ليس لضرب “حماس” فقط، بل لإضعاف كل الأطراف التي يعتقد أنها تشكّل تهديداً له ولدولته، حتى وصل به الأمر إلى الحديث عن تغيير الشرق الأوسط برمّته، مستغلّاً حالة الدعم الأميركي التي ربما لن يحظى بمثلها إلا في ظلّ إدارة دونالد ترامب، التي قدّمت لحكومة تل أبيب ما لم تكن تحلم به أو تتوقّعه. ذلك كلّه شجّعه على التمادي، فقرّر في لحظة فارقة أن تمتدّ يده إلى قطر، الدولة التي رعت مفاوضات الوساطة، وصاحبة العلاقات المتميّزة مع مختلف الدول، وفي مقدّمها أميركا، إذ تُعدّ قطر شريكاً استراتيجياً لأميركا من خارج حلف شمال الأطلسي (ناتو). لكن رغم ذلك، رأى نتنياهو أن ساعة الخلاص من قادة “حماس” ربّما لن تتكرّر، فقرّر استهداف مقرّ اجتماع وفد التفاوض على أمل أن ينهي فيه ملفّ قادة الحركة في الخارج، بالتوازي مع استهدافهم داخل قطاع غزّة.
دفع فشل العملية إدارة ترامب إلى الإدّعاء بعدم علمها بها، وهو ما لا يبدو صحيحاً، فحتى لو افترضنا أن نتنياهو وعسكره لم يُبلِغوا واشنطن بالضربة، لماذا لم تكن ردّة الفعل الأميركي توازي هذا التجاهل وعدم التشاور معهم؟ خاصّة أن المُستهدَف هي قطر بكل ما لديها من علاقات استراتيجية مع أميركا، وبكل ثقلها الدبلوماسي الذي جعلها واحدةً من أهم أقطاب الدبلوماسية الدولية عبر سنوات من الوساطات التي أثمرت نتائج إيجابية شهد لها الجميع. حدث ما حدث، واستُهدِفت قطر، الوسيط النزيه والمؤثّر دبلوماسياً، ومعها شعرت دول عربية وإسلامية عديدة أنه لا بدّ من لغة أخرى يمكن أن يفهمها نتنياهو وحكومته المتطرّفة، فكانت قمّة الدوحة استثنائية، فللمرّة الأولى يلتئم شمل العرب والمسلمين بهذه السرعة، ولأول مرّة تبني الشعوب العربية والإسلامية طموحاتٍ أكبر على قمّة من هذا النوع، بعد أن كانت القمم العربية استعراضية مليئة بالخطب.
صحيح أن قمة الدوحة العربية الإسلامية كانت قمّة تضامن مع قطر بالدرجة الأولى، والبيان الذي خرج منها لم يكن بعيداً من المتوقّع، لكنّها أيضاً كانت بمثابة بداية واقع جديد فرضته الغطرسة الإسرائيلية، فالسلام الذي تحقق مع بعض الدول العربية والإسلامية بقي طوال عمره سلام أنظمة لا شعوب. رغم ذلك، باتت هذه الأنظمة، التي أُحرِجت أمام شعوبها، تشعر بعبء هذه العلاقة، وربّما ظهر ذلك واضحاً في كلمة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في مجلس الأمن، عقب العدوان الإسرائيلي الغادر على قطر، التي لو أُتيح لأحد قادة المقاومة الفلسطينية أن يلقي كلمة في هذا المحفل الدولي، لما ألقى (بتقدير كاتب هذه السطور) كلمة أفضل من كلمة الصفدي. هذا مؤشّر يتعيّن على نتنياهو أن يقرأه، فهو الذي وجد في “7 أكتوبر” (2023) فرصته الذهبية لتحقيق ما يحلم به، بات عقب العدوان على قطر محاصراً بكثير من الأسئلة، ولعل أصعبها تلك التي تُطرَح داخل إسرائيل من أحزاب المعارضة ورؤساء الوزراء السابقين، الذين يتساءلون: ماذا فعل نتنياهو؟ وإلى أين يقود دولة إسرائيل؟

تنظر دول خليجية إلى واشنطن حليفاً غير موثوق، لأنها فشلت في حماية حليف

رسالة قمّة الدوحة يجب أن تقرأها واشنطن جيّداً أيضاً، فلقد باتت دول خليجية تنظر إليها حليفاً غير موثوق، لأنها فشلت في حماية حليف استراتيجي مثل قطر، ولعل اتفاقية الدفاع المشترك التي وقّعتها الرياض مع إسلام آباد تمثّل رسالةً مكمّلةً لرسالة قمّة الدوحة. لقد أقدم نتنياهو على خطوة صعبة عندما تجرّأ على قصف الدوحة، فظهر بعد أيام محاولاً تبرير هذا العدوان، مقارناً بينه وبين ما فعلته واشنطن في استهداف أسامة بن لادن في باكستان، في تخريجة غبية جلبت عليه انتقاداتٍ كثيرة، فقد تورّط، وورّط معه عديدين من داعميه، وأولهم إدارة ترامب، التي وإن بدت غير مكترثة، إلا أنها باتت تشعر بحرج شديد أمام حلفائها في الخليج والمنطقة.
المتوقّع أن تحاصر الدوحة نتنياهو في المحافل الدولية من خلال تفعيل أذرعها القانونية والدبلوماسية. ورغم أن نتائج تلك التحرّكات القطرية لم تظهر بعد، إلا أن الصراخ بدأ يُسمع عالياً في داخل تل أبيب: “غارقون في عزلة سياسية”، كما قال نتنياهو، وهي عزلةٌ سبّبتها أولاً حرب الإبادة التي يشنّها على قطاع غزّة منذ نحو عامين، ولا يزال يواصلها بلا أدنى رادع. وتالياً، قصف الدوحة، الذي يبدو أنه سيجرّ عليه تبعات لم يكن يتوقّعها.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى