التبعية الخطابية

عماد عبد اللطيف

      

صغتُ مصطلح “الاحتلال الخطابي” في الشهور الأولى من ظهور فيروس “كوفيد – 19” عام 2020، حينما لاحظتُ أن الخطاب عن الفيروس “احتلّ” الفضاء العمومي والشخصي في العالم بواسطة فعلين أساسيين. الأول إزاحة الموضوعات اليومية العادية على مستوى التواصل الشخصي (مثل الحديث عن الطقس، وظروف العمل، والهوايات، وغيرها)، وعلى مستوى التواصل العمومي (مثل متابعة الأنشطة العامة للنخب الحاكمة، ورجال الأعمال، والمشاهير، ومتابعات الأنشطة الترفيهية… إلخ). والثاني هو السيطرة على بقية الخطابات بواسطة معالجتها من منظور الفيروس، فقد سيطر على الخطابات الاقتصادية والدينية والتربوية والسياسية والرياضية والإعلانية، والفكاهية وغيرها، وأصبح معظم الكلام (والنصوص) الذي يُنتج في هذه الخطابات يتّصل بالفيروس مباشرة.
هناك مستوى آخر من مستويات الاحتلال الخطابي، يحدُث على مستوى مضامين الخطاب، ومفرداته، ورؤاه ومواقفه، سوف أسمّيه التبعية الخطابية. والتبعية الخطابية هي تخلّي خطاب ما عن خصوصياته الخطابية، وتوحّده مع خطاب آخر مهيمن. سأضرب مثالاً على هذا النوع من التبعية الخطابية في الحقل السياسي هو تبعية خطاب دولة معينة للخطاب السياسي لدولة أخرى. فعلى الرغم من وجود مشترك إنساني وسياسي بين الدول، فإن الطبيعي أن تحظى خطاباتها السياسية بدرجة من الخصوصية والاستقلال الخطابي، بما يعكس استقلالها وخصوصياتها السياسية. فالخطاب السياسي مظهر من مظاهر السيادة، تحرص الدول على أن يعبّر عن استقلال البلد في مواقفه واختياراته السياسية، بما يعكس سيادته، ويحفظ مبادئه، وقيمه، ومصالحه. ويظهر هذا الاستقلال الخطابي في المفردات والتعبيرات والصور والرموز والإشارات التي تصوغ الرؤى والمواقف والاتجاهات نحو الأحداث السياسية.

على الرغم من وجود مشترك إنساني وسياسي بين الدول، فمن الطبيعي أن تحظى خطاباتها السياسية بدرجة من الخصوصية والاستقلال الخطابي

تحدُث تبعية الخطاب السياسي حين تهيمن المفردات والتعبيرات والتصوّرات والمنظورات السياسية التي تميّز الخطاب السياسي في دولة “س” على الخطاب السياسي الخاص بدولة “ص”. فتفقد “ص” سيادتها على خطابها السياسي، وتصبح تابعة خطابياً للدولة “س”. والمثال الذي يوضّح هذا النوع من الخطاب التابع هو البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية في إحدى الدول الخليجية يوم 8/9/2025، بشأن حادثة القدس المحتلة التي أدّت إلى مقتل عدة مستوطنين وجرح آخرين، واستشهاد الشابين الفدائيين اللذين نفّذاها. نشرت وزارة خارجية الإمارات المتحدة تلخيصاً للبيان في صفحتها على الشابكة، بعد ساعات قليلة من وقوع الحادثة، ولم تنشر الوزارة، أو أي من وسائل الإعلام التي أتيح لي الاطلاع عليها البيان نفسه، بل اعتمدت على الموجز الذي نشرته وزارة الخارجية، وهذا نصّه: “أدانت دولة الإمارات بأشدّ العبارات حادثة إطلاق النار الإرهابية التي وقعت بالقرب من القدس، وأدّت إلى مقتل وإصابة عدد من الأشخاص. وأكّدت وزارة الخارجية، في بيان لها، أنّ دولة الإمارات تُعرب عن استنكارها الشديد لهذه الأعمال الإرهابية، ورفضها الدائم لجميع أشكال العنف والإرهاب التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار. كما أعربت الوزارة عن خالص تعازيها ومواساتها لأهالي وذوي الضحايا، ولدولة إسرائيل وشعبها الصديق، متمنية الشفاء العاجل لجميع المصابين”.
يتجلّى الخطاب التابع في تبعية مفردات الخطاب، وتصوّراته للأحداث، والفاعلين. فللدول معاجمها الخاصّة التي تبني تمثيلاتها للأحداث والأشخاص والأماكن، بما يخدم تصوّراتها السياسية، وقيمها، ومبادئها. هذه المفردات قد تتباين على نحو جذري بسبب تباين الرؤى والمواقف والأيديولوجيات والمصالح. فعلى سبيل المثال، يستعمل الاحتلال الصهيوني كلمة “إرهابي” في وصف أي فعل أو شخص أو جماعة تقاوم الاحتلال في الأراضي المحتلة بأي وسيلة. فيطلق على الأطفال الذين يقذفون الدبّابات بالحصى “إرهابيين”، وعلى النساء اللاتي يحاولن منع جرّافة إسرائيلية من اقتلاع أشجار الزيتون “إرهابيات”، وعلى الشيخ الذي يقاوم قوة احتلال مسلّحة تحاول اعتقال ابنه “إرهابي”، وعلى الشاب الذي يطلق النار على مستوطنين يحتلون أرضه، ويقتلون أهله “إرهابي”، ويوصف السياسي الغربي أو الشرقي الذي يدعم حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته بأنه “إرهابي”.
في مقابل وصف الاحتلال الأفعال السابقة بأنها إرهابية، تستعمل معظم دول العالم تسميات أخرى لوصف هذه الأفعال. فمن يتعامل معها استناداً إلى مبادئ حقوق الإنسان التي تحمي حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال بجميع الوسائل الممكنة بما فيها القوة المسلحة، يستعمل تسمية “المقاومة” لوصف وتمثيل الأحداث والأشخاص والأعمال التي يقوم بها أبناء الوطن لتحرير أراضيه. فتطلق على حادثة القدس تسميات مثل “المقاومة”، وعلى المنفّذين تسمية “المقاومين”، وعلى المتضرّرين منها “المحتلين أو المستوطنين”. ومن يتعامل مع هذه الأعمال انطلاقاً من التعاطف مع شعب يتعرّض للإبادة سيُطلِق على هذه الأفعال وفاعليها صفات مثل “النضال”، و”البطولة”، و”الفدائية”. أما من يميل إلى تقديم إدراك وتمثيل لهذه الأحداث انطلاقاً من مبدأ عدم إغضاب الأطراف المتصارعة، وإمساك عصا الخطاب من منتصفها، فسيستعمل أوصافاً وتعبيرات لا تربط الحدث بالسياق الأوسع الذي يحدث فيه، أعني سياق الاحتلال، بل سيعزله، ويتعامل معه بوصفه “أحداث”، أو “وقائع” لا صلة لها بما حولها. ففي حالة إطلاق نار على سبيل المثال، فإن هذا الطرف الذي يسعى إلى استعمال لغة تبدو خالية من الرأي سيسمي فاعليه “المهاجمين”، أو “مطلقي النار”، أو “المنفّذين”، أو غيرها من أوصاف تصف الفعل من دون بناء هوية للفاعلين، ومن دون استدعاء سياق القيام به، ومن دون الانحياز إلى منظورٍ بعينه. أما الحدث نفسه فسوف يطلق عليه تسميات “محايدة” مثل “عملية إطلاق نار”، “هجوم مسلح”، “اشتباك مسلح”، أو غيرها من التعبيرات.
تحدث التبعية الخطابية حين تتبنّى دولة لغة (ومنظور وأيديولوجيا) دولة أخرى في إدراكها وصياغتها وتقييمها حدثاً خلافيّاً ما، بطريقة تتعارض كلية مع حقيقته، وتتطابق مع تصوّر متطرّف له. فالبيان السابق يصف حادثة إطلاق النار في القدس بأنها “عمل إرهابي”، ويصف منفّذيه بأنهم “إرهابيون”، ويدينه بـ”أشدّ العبارات”، ويؤكّد استنكار الدولة التي أصدرته “الشديد لهذه الأعمال الإرهابية، ورفضها الدائم لجميع أشكال العنف والإرهاب التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار”. وفي المقابل، لا يوجد في البيان أي ذكر إطلاقاً لحقيقة أن هذا الحادث وقع في أرض محتلة، وفي مجتمع معسكر، وعلى أيدي مقاومة شرعية، كما يغيب أي ذكر للسياق الذي وقع الحدث فيه وهو الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزّة.
تتبع لغة البيان كليَّة خطاب الاحتلال الإسرائيلي في أقصى أشكال تطرّفه. وتتحّد مع سرديته، ومنظوره، ولا تحمل أي خصوصية تعكس هُويَّة مستقلّة للجهة التي أنتجته؛ بما يعني غياب استقلالية الخطاب، وافتقاد السيادة عليه. ولتوضيح هذا من الضروري أن نحلل السياق الذي وقعت فيه عملية القدس، لنفهم كيف أن سردية الاحتلال بشأنها، التي هيمنت على بيان وزارة الخارجية الإماراتية، لا تستند إلى أي منطق، أو تبرير، وأنها تعبّر عن تلاعب شامل بالحدث، وفاعليه، لا يخدم إلا الكيان الصهيوني، ومن يتوحّد معه. ومن ثمَّ، فإن إعادة إنتاج هذه السردية هو قبول بالتخلّي عن السيادة على الخطاب، وقبول التبعية الخطابية.

 تحدث التبعية الخطابية حين تتبنى دولة لغة ومنظور وأيديولوجيا دولة أخرى في إدراكها وصياغتها وتقييمها لحدث ما

لقد وقعت عملية القدس في مستوطنة راموت، وهي مستوطنة عسكرية في القدس الشرقية المحتلّة بعد 1967. وهذه المستوطنة أرض فلسطينية محتلّة وفقاً للأمم المتحدة، من غير القانوني إنشاء أي مستوطنات فيها. ومن المعروف لدى أبسط المهتمّين بالشأن الإسرائيلي أن هذه المستوطنات معسكرة ومسلحة، وتمارس إرهاباً يومياً على الفلسطينيين، يتجلّى في قتلهم، وانتزاع أراضيهم وحرقها، إلى حدّ أن الدول الغربية نفسها تفرض عقوبات عليها. ومن ثمَّ، فإن أي فعل يقوم به السكّان الأصليون في مواجهة المحتلين الإرهابيين في هذه المستوطنات العسكرية غير الشرعية وغير القانونية هو فعل مقاومة وطنية مشروع وفق القانون الدولي، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبناء على ذلك، فإن عملية القدس لا يمكن أن تُصنّف “إرهاباً” بأي معيار ممكن. فهي مقاومة مسلحة مشروعة في أرض محتلة، ومعسكرة، وفي ظروف إبادة جماعية يتعرّض لها شعب كامل في وطن محتل.
ليست التبعية الخطابية فعلاً إكراهياً دوماً، فبعض أشكال الاحتلال الخطابي تكون نتاج تحالفات بين المحتلّ والخاضع للاحتلال الخطابي. وتكون التبعية الخطابية جزءاً من تحالف خطابي، يمنح فيه طرفٌ ما طرفاً آخر سيطرة على خطابه السياسي، ليقوم بصياغته، وتوجيهه الوجهة التي يشاء. في هذه الحالة نصبح أمام شكل من أشكال التخلّي المؤقّت عن السيادة الخطابية، سواء عن طريق استنساخ الخطاب السياسي للدولة المهيمنة، أو ترك مهمة إنتاج الخطاب السياسي كلية لها. وفي الحالتَين ينتج الخطاب التابع، وتُنجز التبعية الخطابية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى