
قبل أيام قليلة، وللمرّة السادسة في أقلّ من سنتَين تقريباً، تستعمل الولايات المتحدة حقّ النقض (فيتو) لإجهاض قرار وقف الحرب على غزّة. … تاريخياً، ظهر حقّ النقض منذ ما يناهز 80 سنة، وهو آلية معتمدة يلجأ إليها أعضاء مجلس الأمن في الأمم المتحدة لاتخاذ قرارٍ يتعلّق بقضايا السلم والأمن الدوليين. ولا يمكن فهم معقولية حقّ النقض هذا إلّا إذا عدنا إلى تلك الخلفيات السياسية والعسكرية، وحتى القيميّة، التي وجّهت فلسفة الأمم المتحدة، وقادت آليات اتّخاذ القرار آنذاك، خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بالسّلم الدولي، فضلاً عن “قوى عظمى” حدّدت آنذاك مصير باقي الأمم.
تستأثر خمس دول من ضمن ما يناهز 195 دولةً عضواً في الأمم المتحدة بحقّ النقض، وهو “حقّ” حازه هؤلاء مبكّراً حينما نشأت الأمم المتحدة سنة 1945. وهذه الدول هي الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا، وروسيا (وارثة بذلك الاتحاد السوفييتي سابقاً). مُنح هذا الامتياز لهذه الدول، أو بالأحرى منحته لنفسها ولبعضها بعضاً من دون استشارة بقية الدول. كان هذا الامتياز الحصري مكافأةً على انتصارها في الحرب العالمية الثانية، واعترافاً بعظمتها آنذاك (العسكرية والديموغرافيّة). مرّ على ذلك الاستئثار بهذا الحقّ ما يناهز أكثر من ثمانية عقود.
كان حقّ النقض فعلاً غنيمة حرب ولّت، غير أن آثارها الكارثية ظلّت تسحق الأمم الضعيفة أو المستضعفة
لا يعدّ حق النقض مجرّد آلية تصويتٍ تلجأ إليها هذه الدول الخمس من أجل إبطال قرارات أخرى واردة (وممكنة) في الأزمة التي يعالجها مجلس الأمن، ذلك أنه “قرار إجهاض” كما يسمّيه بعضُهم، أي قرار تذهب إليه الدول عمداً، وفي آخر لحظة، إجهاضاً لقرارٍ كان يمكن أن يتّخذه مجلس الأمن نتيجة هذا الامتياز الممنوح لبعض أعضائه. ويؤشّر النقض إلى نظام عالمي تشكّل في سياقات فائتة، ولكنّه ظلّ جارياً رغم التطوّرات التي عرفتها البشرية، على غرار تفكّك الاتحاد السوفييتي وظهور قوى سياسية واقتصادية وديموغرافية صاعدة. غير أن ذلك العالم الذي تشكّلت فيه الأمم المتحدة ولّى وانقضى، فقد صعدت إلى مصاف الدول العظمى بلدان أخرى، على غرار ألمانيا التي تُعدّ القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، فضلاً عن بروز اليابان وكوريا، وبقية النمور الآسيوية، ما يجعل تواصل استبعادها غير مقبول، بل فاقداً الحجّة، إلّا إذا سلّمنا بتواصل معاقبتها باعتبارها دولاً خسرت الحرب العالمية الثانية، أو غير جديرة بأن تكون حكيمةً حتّى تفوز بهذا الحقّ، كما أن التمييز بين القوَّتَين الاقتصادية والسياسية لا يكشف كامل الخلفية التي تؤبّد استحواذ هذه الدول على تلك الغنيمة.
كان حقّ النقض فعلاً غنيمة حرب ولّت، غير أن آثارها الكارثية ظلّت تسحقّ الأمم الضعيفة أو المستضعفة. كان حقّ النقض جرحاً من الماضي البغيض، غير أنه يحرص على الاستمرار من خلال تأبيده. لم تعد الدول تستعمل حقّ النقض للحفاظ على السلم العالمي وحماية البشر من أبشع أنواع الفتك والحروب، بل للحفاظ على هيمنتها ورغباتها المروّعة. لقد استُعمل لإضفاء الشرعية على مزيد من الفتك والتواطؤ مع الجبروت، فكيف نفهم استعمال الولايات المتحدة حقّ النقض في جلّ الحروب التي أدمت المنطقة العربية، علاوة على قضاياها العادلة. لقد كان الحقّ العربي ضحية هذا “الحقّ”، كانت تبعات هذا الاستعمال المشين له في القضايا العربية كارثية، وهي لا تشكّل مجرّد إعطاء الضوء الأخضر لمزيدٍ من التدمير والقتل، بل أيضاً تسلب الحدّ الأدنى من الاحترام للضمير الإنساني الذي بدا بائساً وتعيساً حين يُكال بمكيالَين.
غدا حقّ النقض (فيتو) دليلاً على انتهازية المنظمة الأممية وفقدانها المصداقية
تُعدّ القضايا العربية من أكثر المواضيع التي استُعمل فيها حقّ النقض، فسورية مثلاً ظلّت خلال العقد الماضي موضوعاً لاستعمالات حق النقض الأكثر عبثاً، فاستعملته روسيا ما يناهز 20 مرّة لحماية نظام بشّار الأسد، وتجنّب معاقبته، حتى ولو كان ثمن ذلك مئات آلاف من الضحايا لاجئين وقتلى تحت نيران البراميل المتفجّرة. يمنح هذا الاستعمال الظالم لحقّ النقض الدول المعتدية حصانةً أبديةً، وهي ترتكب جرائمها كلها، وحماقاتها، وتعلم مسبقاً أنها في حماية “فيتو” وأصحابه المستأثرين به. ويجعل هذا الامتياز الذي منحته هذه الدول القوية والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية من هذه الأخيرة وصيةً أبديةً على البشرية، إنّها قادرة على منح الحماية لمن تشاء ومعاقبة من تشاء، من دون اعتبارٍ لقيم الحقّ. لذلك يُبرز هذا الاستعمال الجائر لحقّ النقض استخفافَ هذه الدول بالقانون الدولي وبالضمير الخلقي لإنسانيّة القرن الواحد والعشرين.
لم تقف منظمات ودول عديدة عاجزةً أمام هذه المهازل والمظالم نتيجة هذا الاستعمال السيّئ وغير المبرّر لحقّ النقض، فقدّمت فرنسا والمكسيك مثلاً مبادرةً من أجل التضييق في استعماله، إذ لا يمكن، حسب هذه المبادرة، اللجوء إليه في حالة الحروب التي تُزهَق فيها الأرواح من دون مبرّر، كما تجبر هذه المبادرة أيضاً البلد الذي يلجأ إلى هذا “الحقّ” أن يقدّم مبرّرات مقنعة ومفصّلة، وذلك على خلاف الوضع الحالي الذي لا يدعو البلدان إلى تقديم أيّ مبرّر لاستعمال حقّ النقض. غير أن هذه المقترحات (والمبادرات) تظلّ تحت طائلة حقّ النقض ذاته، فالدول الخمس دائمة العضوية يمكن أن تستعمل ذات الحقّ من أجل إجهاض أي قرار من شأنه أن يحرمها من هذا الامتياز الحصري.
يشكّل النقض حقيقةً معركة ديمقراطية على المستوى الدولي، حتى أنه غدا دليلاً على انتهازية المنظمة الأممية وفقدانها المصداقية، فمبكّراً، ومنذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة، برزت تلك البراغماتية سافرةً ومن دون غضاضة، ترغب في مجازاة القوى المنتصرة بعد حربٍ مدمّرةٍ أنهكت البشرية وقضت على ملايين الأبرياء… إنها الحصيلة الكارثية التي جناها اعتماد هذه الآلية الظالمة وغير الديمقراطية.
المصدر: العربي الجديد