ماذا بعد المهرجان السوري الطويل؟

حسام جزماتي

بعد السقوط المفاجئ لبشار الأسد أخذت الصدمة تخلي مكانها بسرعة لاحتفالات عارمة اجتاحت نفوس كثيرين ممن كانوا قد يئسوا من حدوث ذلك، وبالمقابل عبّرت أصوات قليلة عن حذر في تفاؤلها، لأسباب لم تكن نزيهة على طول الخط، فأسكتتهم المقولة العربية الشهيرة “اليوم خمر وغداً أمر“.

وفيما ظهر أن هذا المطلب منطقي لعدم تنغيص الفرحة بحسابات المستقبل المتعبة فوراً، فإن خمر السوريين بدا فائضاً وطويل التأثير، لا تكاد جرعة منه تنتهي حتى تتبعها أخرى، في كرنڤالات صار يبدو أن وجود كثير منها، أو المبالغة فيه، هدف في حد ذاته.

واكبت أفراح التحرير أغانٍ عُقدت على إيقاعها الدبكات، وبدأت بالتأكيد، للذات أولاً، على تحقق الحلم العصيّ بانهيار “النظام البائد”، عبر أغنية “مندوسهم مندوسهم.. بيت الأسد مندوسهم”، وما تبعها من رفع السوري الحر رأسه “فوﮒ” إثر تحرره من جلاديه، ثم الالتفات إلى العناية بحال البلد التي “بالحب بدنا نعمّرها”.

وسوى المناسبات المحدّدة وهبتنا ماكينة صناعة الأفراح احتفالات مفاجئة طيّارة، فنركب السيارات والموتورات لننطلق إلى الساحات ابتهاجاً باتفاق مجهول المصير، مع “قوات سوريا الديمقراطية“..

لكن تأخّر الإعمار، لأسباب عديدة معقدة، جمّد العاشق في مقام الحب، يتغزل بجمال البلد ويرقص لتحريرها حتى اليوم، وقد ساعده على دوام الأفراح والليالي الملاح تواتر توافد المهجّرين، ولا سيما نجومهم الذين كان يُحتفى بهم في مقهى الروضة الدمشقي، ثم أعيانهم المحليين الذين صحبناهم إلى مدنهم الأصلية؛ الشيخ الذي لم يزر حماة منذ أربعين عاماً، والزعيم السياسي الذي لم يطأ حلب من مثلها، نستقبلهم في المطار ونرافقهم في الموكب.

ثم حمل الزمن موجة من “الأوّليات” بحكم التواريخ، فكيف لا نحتفل بأوّل عيد للميلاد بعد التحرير والطوائف المسيحية “الكريمة” بيننا آمنة في كنائسها معافاة في شجيراتها؟ وكيف نغفل عن الاحتفال بعام جديد من دون الأسد؟ وكيف نهمل أول ذكرى للثورة بعده، ورمضاناً لم يرمضِنه، وعيداً لم يعيّده، وأضحى لم يضحِّ فيه ببعض شعبه؟

وسوى المناسبات المحدّدة وهبتنا ماكينة صناعة الأفراح احتفالات مفاجئة طيّارة، فنركب السيارات والموتورات لننطلق إلى الساحات ابتهاجاً باتفاق مجهول المصير، مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ونحتفي بغداءٍ مكلف بتوقيع اتفاقيات مع شركات خليجية وعالمية ستعوّض كسر ميزانيتنا حين تُقلِع إعادة الإعمار، ونطلق الألعاب النارية في سماء الليل متباهين بأول “هوية بصرية” سترفرف برمز البلاد عالياً، والرصاص عند رفع العقوبات الأميركية.

ناهيك عن ركوب الباصات إلى أوّل تنظيم لمعرض دمشق الدولي، وإلى مهرجانات التسوق الموسمية، ولحضور لقاءات المؤثرين وصنّاع المحتوى، فضلاً عن المناسبات الجارية لجمع التبرعات للمدن من قبل أهلها للإسهام في ترميمها.

وفي حين نعمَه في سكْراتنا تُبنيِنُ السلطة القائمة حضورها بخطوات كبرى؛ مؤتمر النصر ومؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري وتشكيل حكومة انتقالية والدعوة إلى انتخابات لمجلس الشعب، ولا تحظى هذه الخطوات التأسيسية بما يكفي من الوقت للنقاش العام، ويبقى السجال حولها حبيس بيانات تصدرها مؤسسات حقوقية ومنظمات مدنية وبضعة أصوات معارضين متناثرين.

وفي الغضون تُملأ شواغر المناصب العليا والمتوسطة في القطاع العام بأسماء قد لا نعلم بتعيينها إلا من “فيس بوك”، ولا نعرف ما يكفي عن سيرتها المهنية، في حين تتكفل الإشاعات بسدّ ثغرات المشهد حين تتداول معلومات، يصعب التأكد منها أو نفيها، عن مصالحات عادت بموجبها شبكة رجال أعمال كانوا يدعمون النظام، وعن نشوء منظومة فساد يتم ذكر أسماء أمرائها بصوت منخفض.

وبين هذا وذاك نمرّر مجزرة في الساحل وأخرى في السويداء، و”تجاوزات فردية” في كل مكان، موتاً تحت التعذيب، واختفاء قسرياً، ومخطوفين ومخطوفات.

في بلدٍ يكتشف على أراضيه مقبرة جماعية كل أسبوع لا يصح اللهو، ويجدر بنا الاقتصاد في الاحتفالات والتقشف في مظاهر الفرح، كما لا يستقيم أن نغفل عن تحقيق أهداف الثورة..

في الشهر العاشر بعد سقوط النظام لم يعد خُمارنا لائقاً، بل أصبح حالة قليلة المسؤولية تجاه مستقبل محفوف بالمخاطر لبلاد خرجت من تحت الركام كما نصرّ على القول، وسلوكاً ضعيف الحساسية الأخلاقية تجاه من قضوا وعانوا لنشهد التحرير، إذ يتطلب كلا الأمران منا أن “نقف باستعداد” في مواجهة الاستحقاقات اللانهائية التي يفرضها النهوض المرجوّ، أو مجرد استعادة الخدمات الأساسية بكفاءة عادية في قطاعات البناء والطاقة والصحة والتعليم.

وإذا كنا نفكّر في بعض الأمثلة العالمية أحياناً، كالنموذج الألماني الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، فيبدو أننا أغفلنا منه الجهد المضني للشعب الطالع من بين الأنقاض وتذكّرنا، بشكل أشد وضوحاً، مشروع مارشال وتدفق الأموال الخارجية التي بتنا ننتظر أن تهلّ علينا من الدول الخليجية وغيرها.

في بلدٍ يكتشف على أراضيه مقبرة جماعية كل أسبوع لا يصح اللهو، ويجدر بنا الاقتصاد في الاحتفالات والتقشف في مظاهر الفرح، كما لا يستقيم أن نغفل عن تحقيق أهداف الثورة؛ العدالة والكرامة والتعددية والمساواة أمام القانون واحترام حقوق الإنسان، لصالح أن يدفعنا الزهو إلى إطلاق العنان لعدوانيتنا يميناً وشمالاً في الواقع، ولتنمّرنا الفادح في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى