قصف الدوحة رسالة إنذار.. والمعاهدة السعودية–الباكستانية طريق مستقبل

علي بكر الحسيني 

سؤال يفرض نفسه بقوة بعد أن كشفت الضربة الإسرائيلية للدوحة حقيقة وهشاشة الوضع العربي، وفضحت الوهم الذي رُوِّج طويلاً بأن التحالف مع الولايات المتحدة يشكل مظلة أمان. الواقع يقول إن العرب، مهما أغرقوا أنفسهم في صفقات السلاح الغربية ومهما راهنوا على واشنطن، سيبقون مكشوفين للعدوان الإسرائيلي، لأن المشروع الأمريكي في جوهره لم يكن يوماً مشروع حماية للعرب بل مشروع ربطهم بعجلة التبعية. الضربة على الدوحة جاءت لتؤكد أن إسرائيل تتحرك بغطاء أمريكي كامل، وأن العرب ليسوا في حسابات واشنطن إلا بمقدار ما يخدم أمن الكيان الصهيوني. وهنا يصبح من المشروع أن نتساءل: هل آن الأوان لكي يتحرر العرب من هذه الدائرة الجهنمية ويبحثوا عن بدائل حقيقية تحفظ أمنهم وكرامتهم؟

الإجابة لا تحتاج إلى الكثير من التنظير، فالمشهد واضح: منذ عقود وبعض العرب يعيشون وهم “الحليف الأمريكي”، بينما لم يروا من واشنطن سوى الخيبات. هي من دعمت إسرائيل بالمال والسلاح حتى باتت أقوى قوة عسكرية في المنطقة، وهي من غزت العراق ودمرت مؤسساته وسلمته للفوضى، وهي من رعت مشروع “الفوضى الخلاقة” الذي مزّق سوريا وليبيا واليمن. حتى الدول التي أغرقت خزائنها في شراء الأسلحة الأمريكية لم تحظَ بأمان، لأن الهدف لم يكن يوماً تمكين العرب من الدفاع عن أنفسهم، بل إبقاء جيوشهم مرتبطة بالتكنولوجيا الغربية لا تتحرك إلا بإذنها. والنتيجة أن إسرائيل تواصل عدوانها مطمئنة أن واشنطن ستوفر لها الغطاء السياسي والدبلوماسي والعسكري.

الضربة على الدوحة بهذا المعنى ليست حادثة عابرة، بل جرس إنذار يجب أن يوقظ العرب من سباتهم. فإلى متى نبقى أسرى لهذا الارتهان؟ وإلى متى نقبل أن نُعامل كتابعين لا كشركاء؟ البدائل موجودة، لكنها تحتاج إلى شجاعة في القرار وإرادة في التنفيذ. ولعل أبرز هذه البدائل ما جسدته المعاهدة السعودية–الباكستانية الأخيرة، التي أعادت إلى الأذهان فكرة الأمن الجماعي ولكن بصيغة جديدة تتجاوز حدود العالم العربي لتشمل قوى إسلامية كبرى قادرة على إحداث فارق في موازين القوى.

هذه المعاهدة لم تولد من فراغ، بل هي ثمرة تاريخ طويل من التضامن بين العرب وباكستان. فمنذ اللحظة الأولى لاستقلالها عام 1947، كانت السعودية والعالم العربي في مقدمة الداعمين لباكستان، بينما وقفت الأخيرة في كل المحافل إلى جانب القضية الفلسطينية. لا ينسى العرب أن طيارين باكستانيين قاتلوا في سماء دمشق والقاهرة في حرب تشرين 1973، وأن دماءهم امتزجت بدماء الشهداء العرب. ولا ينسى الباكستانيون أن السعودية كانت أول من مدّ لهم يد العون في معاركهم مع الهند وفي كوارث الزلازل والفيضانات. هذه ليست علاقة عابرة، بل أخوة متجذرة أثبتت قدرتها على الصمود في وجه العواصف.

المعاهدة السعودية–الباكستانية ترفع هذا التضامن إلى مستوى استراتيجي جديد، إذ تقر بأن أي عدوان على أحد الطرفين يُعد عدواناً على الآخر. وهذا المبدأ وحده كفيل بإعادة الاعتبار إلى فكرة الأمن الجماعي التي افتقدها العرب طويلاً. لكن الأهم أن هذه الخطوة تفتح الباب واسعاً أمام العرب ليكسروا حاجز التبعية لواشنطن، وليدركوا أن التحالفات الحقيقية لا تُبنى على الابتزاز وإنما على الندية والمصالح المشتركة.

ولكي نفهم مغزى هذا التحالف، علينا أن نتأمل في تجربة باكستان نفسها. فهذا البلد لم يكن ليستطيع الصمود في وجه الهند لولا تحالفه الاستراتيجي مع الصين. حين دعمت أمريكا وإسرائيل والغرب نيودلهي بالمال والسلاح والتكنولوجيا، لجأت إسلام آباد إلى بكين، واستطاعت عبر هذا التعاون أن تبني قوة ردع حقيقية قلبت المعادلة. السلاح الصيني لم يكن مجرد معدات عسكرية، بل كان رمزاً لخيار بديل يثبت أن العالم لا تديره واشنطن وحدها، وأن من يمتلك الجرأة على تنويع تحالفاته يمكنه أن ينتصر حتى على خصوم تدعمهم أقوى القوى الغربية. لقد انتصرت باكستان في معاركها مع الهند لأنها لم تخضع لمنطق التبعية، بل بحثت عن شريك استراتيجي يحترمها ويعاملها كند، ووجدت هذا الشريك في الصين. هذا الدرس الباكستاني يجب أن يقرأه العرب جيداً: كما انتصرت إسلام آباد بتحالفها مع بكين في مواجهة محور أمريكي–هندي–إسرائيلي، يمكن للعرب أن يجدوا بدائلهم في الشرق، في قوى صاعدة مثل الصين وروسيا وغيرها، بعيداً عن قبضة الغرب.

وهنا تكتسب المعاهدة السعودية–الباكستانية بعداً مضاعفاً، فهي لا تربط العرب بباكستان وحدها، بل تفتح أمامهم نافذة على الصين، ذلك القطب العالمي الصاعد الذي ينافس الغرب على قيادة الاقتصاد والسياسة الدولية. بمعنى آخر، فإن أي تعاون سعودي–باكستاني سيحمل ضمناً بعداً صينياً، ما يمنح العرب فرصة للانفتاح على معسكر دولي جديد يعاملهم باحترام أكبر ويمنحهم مجالاً أوسع للحركة بعيداً عن ضغوط البيت الأبيض.

إن هذه الرؤية ليست حلماً رومانسياً، بل خياراً عملياً أثبت نجاحه في تجارب أخرى. ألم يكن العرب في الخمسينيات والستينيات جزءاً من حركة عدم الانحياز التي رفعت شعار الاستقلال عن قطبي الحرب الباردة؟ ألم يجدوا في تحالفاتهم مع دول آسيوية وإفريقية وأمريكية لاتينية سنداً قوياً لقضاياهم؟ فما الذي يمنع اليوم من استعادة تلك الروح التحررية؟ الفرق الوحيد أن الظروف الحالية أكثر إلحاحاً، لأن المشروع الأمريكي–الإسرائيلي بات يهدد وجود الأمة نفسها، لا مجرد مصالحها.

الضربة على الدوحة بهذا المعنى يمكن أن تكون لحظة مفصلية: إما أن يستمر العرب في الارتهان لواشنطن ويواجهوا المزيد من الضربات، وإما أن يستوعبوا الدرس ويشرعوا في بناء تحالفات حقيقية تحفظ أمنهم. المعاهدة السعودية–الباكستانية تقدم النموذج العملي: شراكة تقوم على التضامن التاريخي، المصالح المشتركة، والندية الكاملة، وتفتح الباب للتواصل مع قوى صاعدة مثل الصين. إنها تقول ببساطة: لسنا مضطرين للبقاء تحت رحمة أمريكا، ولسنا عاجزين عن بناء بدائلنا.

قد يظن البعض أن الخروج من المظلة الأمريكية مغامرة محفوفة بالمخاطر، لكن التاريخ يعلمنا أن الأمم لا تتحرر إلا حين تجرؤ على كسر قيودها. الهند والصين وتركيا وروسيا كلها أمثلة على دول قررت أن تسلك طريقاً مختلفاً فصارت أرقاماً صعبة في المعادلة الدولية. فلماذا يبقى العرب وحدهم أسرى للخوف من واشنطن؟ أليس من حقهم أن يجربوا طريقاً آخر يبدأ من التضامن مع أشقائهم في باكستان، ويمتد إلى تحالفات مع قوى شرقية كبرى تعطيهم ما حُرموا منه في الغرب: الاحترام والندية؟

إن العروبة التي ننشدها اليوم ليست شعاراً فارغاً، بل مشروع تحرر ونهوض. وهي تجد في مثل هذه التحالفات بُعدها العملي، لأنها تفتح آفاقاً للاستقلال عن الغرب وتمنح العرب فرصة لصياغة مستقبلهم بأيديهم. وإذا كان الدم الباكستاني قد امتزج بالدم العربي في حرب 1973، فإن المعاهدة السعودية–الباكستانية اليوم هي امتزاج للإرادات في معركة الاستقلال عن التبعية. الضربة الإسرائيلية للدوحة قد تكون أليمة، لكنها يمكن أن تصبح الشرارة التي توقظ الأمة وتدفعها للبحث عن بدائل حقيقية. والمعاهدة مع باكستان هي أول هذه البدائل، ونموذج لما يمكن أن يحدث حين نثق بأنفسنا ونمدّ أيدينا إلى شركاء يشاركوننا الهم والمصير.

في النهاية، العرب أمام مفترق طرق. إما أن يظلوا أسرى مشروع أمريكي–إسرائيلي أثبت أنه لا يرى فيهم سوى أدوات، وإما أن يتحركوا لبناء مشروعهم الخاص بتحالفاتهم المستقلة. الضربة على الدوحة أظهرت حجم الخطر، والمعاهدة السعودية–الباكستانية أظهرت أن البديل ممكن. يبقى السؤال: هل نملك الشجاعة لنلتقط هذه اللحظة ونحوّل الألم إلى قوة، والانكشاف إلى فرصة، والتبعية إلى استقلال؟ الجواب رهن بإرادتنا، فإذا آمن العرب بأنفسهم وتحركوا، فإن المستقبل لن يُكتب في واشنطن أو تل أبيب، بل بأيديهم هم، وبحبر العروبة والإسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى