
شكرا لكل الأصدقاء الذين هنأوني بعيد ميلادي يوم أمس 15 أيلول/ سبتمبر لأنهم ذكروني بمناسبة غالبا لا أتذكرها إلا بعد أن تمر ببضعة أيام .
بين عشرات المرات التي تكررت فيها هذه المناسبة ثمة مرة مميزة ووحيدة لا أنساها أبدا هي 15 ايلول 1982 . يومها تصادف عيد ميلادي الثلاثون .. واليكم ما حدث في ذلك اليوم الاليم الكئيب وكيف أحييت المناسبة فيه :
كنت أعيش في بيروت وأعمل في مجلة ( الشراع) التي لم أبرح أكتب فيها الى اليوم منذ 33 عاما وكنت أقضي معظم ساعات يومي في مكتبي فيها , في حي المصيطبة .
مساء 14 سهرت الى ساعة متأخرة في المكتب مع الصديق الزميل حسن صبرا( رئيس التحرير) نتابع باستثارة أنباء اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل 1947 – 1982) وعندما تجاوزت الساعة الثانية عشر ليلا بدأ يوم عيد ميلادي وانا في أعلى درجات القلق والتوتر والخوف من المجهول . قبيل الفجر بقليل أخلدت للنوم متوجسا أن اسمع انباء سيئة في الصباح . وصدق حدسي إذ استيقظت بعد ثلاث ساعات على أزيز الطيران الاسرائيلي الحربي يغير على علو منخفض كما كان أثناء الغزو قبل اسابيع من ذلك اليوم .
نهضت من سريري وارتديت ملابسي وخرجت على عجل من المنزل بلا حمام صباحي ولا قهوة بسبب انقطاع المياه , والكهرباء , ذهبت الى مكتبي القريب من سكني وتبين أن القوات الاسرائيلية بقيادة المجرم ارئيل شارون بدأت عملية اجتياح بيروت , بعد أن انسحب منها المقاتلون وسلموا أسلحتهم اعتقادا أن الغزو قد انتهى بناء على وعود العواصم الغربية , وثقة بوجود القوات الدولية التي أرسلت لحفظ الامن في بيروت بعد انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية منها , حسب الاتفاق الذي رعاه الوسيط الامريكي فيليب حبيب !
هكذا بدأ عيد ميلادي يوم 15 ايلول 1982 ومرت ساعاته البطيئة مثقلة بالألم والهوان لتدنيس دبابات العدو عروس العواصم العربية بعد صمود ومقاومة اسطوريين استمرا ثلاثة شهور , وخلال النهارنزح النزر القليل الباقي من سكانها , وأصبحت شبه مهجورة سوى من الاشباح .
عندما حل المساء كانت بيروت الغربية بكاملها قد وقعت تحت الاحتلال باستثناء جزء من حي المصيطبة الذي اقطنه بفضل صمود ثلة شجاعة من المدافعين عنه . سهرت ليلا مع ثلاثة أصدقاء على شرفة المنزل وسط ظلام دامس يطمس معالم المدينة الجريحة , يجثم على صدورنا الشعور الثقيل بالاحباط والصدمة , ثم تذكرت فجأة المناسبة فأخبرت الأصدقاء وأنا أحاول المزاح والضحك بصعوبة ومرارة : اتعرفون أن اليوم يصادف عيد ميلادي الثلاثين ؟! وضحكوا قائلين : وهل هذا وقته ..؟!!
وبينما نحن على هذه الحال بدأت تلمع في سماء المدينة في مكان غير بعيد عنا قنابل مضيئة وتتعالى زخات رصاص كثيفة متتالية وانفجارات مدوية .. قال لي أحدهم ها هي شموع الاحتفال توقد والالعاب النارية احتفاء بعيد ميلادك .. يالله انبسط !
ومع استمرار هذا المشهد الحربي أخذنا نتكهن بما يدور وحقيقة ما يجري على الارض خصوصا أننا صرنا نسمع اصوات آدمية تستغيث . كنا نرى المشهد ولا نتبين تفاصيله , فشرفتنا تطل على المخيمين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا , وتوفر لنا امكانية متابعة ما يجري كما لو أننا جالسون في منصة استاد رياضي كبير نتابع مباراة لكرة القدم !!.
لم نستطع الرقاد تلك الليلة لأن المقاتلين المدافعين عن المنطقة أخبرونا بأن القوات الاسرائيلية ستبدأ اقتحام المصيطبة مع الفجر وانهم سيتصدون لها , لذلك يستحسن أن نغادر نحن المدنيون المنطقة قبل الفجر لكي لا نصاب بأذى متوقعين معركة حامية مع العدو .
مع شروق أول شعاع للشمس عند الخامسة خرجنا من المنزل وتفرقنا لكي لا نثير انتباه الاسرائيليين , وقررت أنا التوجه الى بيت آخر يقع في منطقة قريطم/ ساقية الجنزير لأحتمي به , وهو للكاتب البارز الصديق الياس سحاب وشقيقه الفنان الكبير سليم سحاب كانا قد استأمناني عليه وسلماني مفاتيحه قبل أن يغادرا مع عائلتيهما لبنان الى سورية .
سلكت في طريقي ( نزلة يزبك ) ومنها الى (كورنيش المزرعة) ووقعت عيناي للمرة الأولى في حياتي على الجنود الاسرائيليين مباشرة , وعلى دباباتهم تدنس شوارع بيروت , وتفاديت قدر الامكان الاقتراب منهم .
في تقاطع طلعة يزبك بالكورنيش صادفت امرأة أربعينية في حالة تثير الرعب والشفقة : كانت حافية القدمين , حاسرة الرأس , منكوشة الشعر , ذاهلة العينين , ترتدي ثياب نوم شفافة لا تستر جسدها , كانت أشبه ما تكون بجثة خارجة من قبرها للتو.. اقتربت منها لأسألها ما بها ولماذا هي على هذه الهيئة المخيفة , فحاولت أن تشرح لي لكن الذعر كان يعقد لسانها ويعجزها عن النطق , وبعد تكرار المحاولة فهمت منها أنها فلسطينية من مخيم صبرا وأن الاسرائيليين كانوا طوال الليل يذبحون ويقتلون السكان وأنها تمكنت من الفرار ولا تعرف أين تذهب !
عندها أدركت أن ما قضيت الليل أتفرج عليه من شرفة منزلي كان مذبحة صبرا وشاتيلا البشعة التي قادها شارون ونفذها مسلحون من القوات اللبنانية بقيادة الياس حبيقة الذي اصبح فيما بعد حليفا لنظام الاسد ! حيث ذبحوا وقتلوا نحو 1300 فلسطيني مدني معظمهم من النساء والاطفال والشيوخ .
بعد ساعات قليلة خرجت أنباء المجزرة الى العالم ونشرتها وسائل الاعلام العالمية .
وانحفرت صور ذلك اليوم الدامي في ذاكرتي بعمق كالوشم , وبشكل غير قابل للنسيان , كلما استرجعتها أحسست كأنها وقعت أمس !!
المصدر: صفحة الراحل محمد خليفة على الفيسبوك 17 أيلول/ سبتمبر 2014