
وأخيراً، تمكّن، بعد ظهر يوم السبت الماضي، أسطول الصمود العالمي من انطلاق أولى سفنه من ميناء بنزرت بعد تردّد وتأجيل مرات عديدة، ما يبرهن على صعوبة المهمة وتعقدها، فهي مبادرةٌ لا سابق لها من حيث الحجم والمسافة. والسفن تقلع من هذا الميناء، ولا شك أن منظميها وراكبيها استحضروا آخر مواجهة دامية بين التونسيين والاحتلال الفرنسي (يوليو/ تموز 1961) بعد ما يناهز ست سنوات من الاستقلال، حين تمسّك الفرنسيون بالقاعدتين، الجوية والبحرية، لانطلاق هجماتهم على مدن شمال الجزائر وشرقها. ولعل في اختيارها رمزية بالغة تتضاعف، حين نتذكّر أيضاً أنها استقبلت الباخرة التي أقلت ما يناهز ألف مقاتل فلسطيني (28 أغسطس/ آب 1982)، انطلقت من بيروت، حين أُجبِروا على خوض تجربة منفى قاسية. لقد اضطرّوا حين تخلت عنهم الأنظمة العربية وتحرّشت بهم أيضاً دول الجوار إلى الابتعاد أول مرّة عن خطوط المواجهة. وكانت تغريبة مؤلمة شكّلت منعطفاً في الصراع العربي الإسرائيلي. حط الفلسطينيون رحالهم في منفى جديد، وظلّوا بتونس ما يناهز العقد، قبل أن يعود بعض منهم ضمن اتفاقيات أوسلو (1993). ومع ذلك، كان لاختيار ميناء مدينة بنزرت الشمالية دواعٍ لوجستية بحتة، إذ يتوفّر الميناء التجاري على حد أدنى يستجيب للمعايير والإجراءات الوطنية الخاصة بسلامة النقل البحري، وهي مسائل لوجستية، ربما لم ينتبه إلى تعقيداتها المنظّمون، تحت فورة مشاعر التطوّع والاندفاع والحماسة. توافدت سفن هذا الأسطول على الموانئ التونسية، قادمةً، في مرحلة أولى، من مدينة برشلونة في إسبانيا، البلد الذي تحوّل، شعباً وحكومةً، إلى دولة مناصرة للحق الفلسطيني، ولم ترسُ السفن المنطلقة من هناك في أي ميناء في المغرب أو الجزائر، لتحفّظات أمنية وسياسية عليها من سلطات البلدين.
الموكب الثاني من هذا الأسطول العالمي سفن الأسطول البحري المغاربي التي رست في ميناءَي سيدي بوسعيد وقمرت، وهي نحو 25 سفينة، بعد أن تخلت عن سفينتي صيد لإجراءات تقنية تخصّ سلامة المركب وراكبيه، وكانت قد أقلعت ليلة الجمعة باتجاه ميناء بنزرت، وعلى متنها ما يناهز 70 تونسياً، وفي جلهم أطباء إسعاف أو ناشطون حقوقيون، فضلاً عن بعض ممثلين ومغنين، وجلهم تونسيون، إضافة الى ليبيين وجزائريين ومغاربة، فضلاً عن مشاركين من الكويت والبحرين وعمان وقطر، وذلك للانضمام إلى الأسطول العالمي الذي رست سفنه في ميناء بنزرت. علماً أن سفناً أخرى قد انطلقت من عدة موانئ أوروبية، لعل أهمها الموانئ اليونانية، وكلها ستلتقي في عرض المياه الدولية قبالة الشواطئ الإيطالية، للانطلاق إلى غزّة بعيد تصريحات قوية من رموز نقابات عمال الموانئ هناك، هدّدت فيها إسرائيل وحلفاءها من خطورة التعرّض للأسطول.
كان الحضور الشعبي الذي رافق الأسطول لافتاً للانتباه، وقد غابت عنه الوجوه السياسية المألوفة
شرعت السفن تباعاً في مغادرة المياه الإقليمية التونسية، علماً أن حالة السفن التونسية تحديداً كانت محلّ تحفّظات إدارية وتقنية من هيئات الملاحة الوطنية، غير أن الإصرار والعزيمة لم يكونا كافيين لتجاوز الإجراءات الإدارية والحدودية المعقّدة المعمول بها، وساهمت العوامل المناخية في بعض الاضطرابات التي شابت انطلاق سفن أسطول الصمود.
كان الحضور الشعبي الذي رافق الأسطول لافتاً للانتباه، وقد غابت عنه الوجوه السياسية المألوفة، ما قد يعود إلى تجنّب تهم التوظيف الحزبي والالتفاف على المبادرة والحرص على أن تكون مبادرة شعبية مفتوحة تعبّر عن الضمير العروبي للتونسيين ولغيرهم، فضلاً عن حسٍّ إنسانيٍّ رفيع، ارتقى بغزّة إلى أن تكون ضمير الإنسانية الحالي. والسبب الثاني تحرّش بعض من أنصار النظام التونسي بالقافلة البحرية ورموز ناصرتها، باستعادة خطاب التخوين والمؤامرة، إذ هناك من رآها قافلة “مزايدة” على مساندة الرئيس قيس سعيّد غزّة، حتى إنهم ذهبوا إلى تشويه رموزها، إلى حدّ أنهم قدّموا من خلال شبكات التواصل الاجتماعي معلومات مضلّلة عن سقوط أجسام حارقة، معتبرين ذلك نتيجة أفعال طيشٍ أتاها أعضاء هذه القافلة (سهرات شواء سمك)، قبل أن تُصدر وزارة الداخلية بياناً اعتبرت فيه أن الأمر كان “فعلاً مدبّراً”.
سيرافقهم في رحلتهم الطويلة نحو غزّة صوت محمود درويش: … حاصر حصارك.. لا مفرُّ
لم يكن انطلاق الأسطول أمراً يسيراً، إذ لم يسلم من بعض الشوائب، من قبيل سوء التنظيم وعدم مطابقة بعض السفن معايير السلامة الوطنية والدولية، خصوصاً أن الأسطول قد يحتاجُ الرسوّ عند الطوارئ في موانئ أوروبية، رغم أن الوجهة غزّة مباشرة.
أحرجت هذه المستجدّات المنظمين ومئات المتطوّعين الذين تقدّر أعدادهم بحوالى 600 فرد، غير أنها، في الوقت نفسه، زادتهم إصراراً على الوصول الى شواطئ غزّة المحاصرة والمجوّعة منذ ما يفوق 17 سنة. يطمح أسطول الصمود العالمي، وهو أكبر أسطول ينتظم لمساندة قضية عادلة، إلى أن يفتح جبهة من جبهات النضال السلمي الذي يحاصر الكيان الصهيوني أخلاقياً.
سيرافقهم في رحلتهم الطويلة صوت محمود درويش: سقط القناع/ عن القناع/ عن القناع.. سقط القناع/ لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء/ يا صديقي، لا قلاع/ لا الماء عندك، لا الدواء، لا السماء، ولا الدماء .. ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء/ حاصر حصارك.. لا مفرُّ.
المصدر: العربي الجديد