حين يتحوّل المقهور إلى شريك في القهر

سلام الكواكبي

لا يعيش المستبدّ وحده، ولا يقتصر على جلادٍ متعطش للسلطة. لا يكفيه قصر محصّنٌ ولا جيشٌ مدجّج، بل يحتاج دائماً إلى جمهور يصفق ويبرّر ويهتف. كأن الطغيان مسرحية تحتاج إلى ممثل رئيسيّ واحد، لكنه لن ينجح من دون جوقة من العامة. وتتحوّل من ثم الضحيةُ بمرور الزمن إلى أداة طيّعة في يد جلادها. إنها علاقة مركّبة، تقوم على طرفين: مستبد يفرض سطوته، وجماهير تمنحه شرعية الطاعة. المعضلة أن المقهور، الذي يُفترض أن يكون الضحية، يصبح، في لحظة ما، شريكاً في استمرار القهر. يصفق لجلاده، ويبرّر أفعاله، بل يدافع عنه، كما لو كان يحمي نفسه.

المشهد مألوف: حاكم ينهب ثروات البلاد، فيخرج من يقول “ما شاء الله، كريم وسخي”. يزجّ الحاكم المعارضين في السجون، فيُشاع إنه “حازم وعادل”. وحين يرسل الشباب إلى حربٍ عبثية، تتبارى الأبواق في وصفه بالبطولة. كل شيء مقلوب: النهب يصبح عطاءً، القمع يتحوّل إلى عدل، والدم المراق يُغسل بخطبة رنّانة أو أغنية وطنية تصنع نشوة زائفة. لماذا يقبل الناس ذلك؟

المسألة أعقد من مجرّد خوف. صحيح أن القهر يولّد الطاعة، لكن الأدهى هو القابلية للتبرير. كثيرون يصفّقون ليس لأنهم مقتنعون، بل لأنهم يخشون الصمت. في مجتمعاتنا، أن تسكت قد يعني أنك “ضد”، وأن تتساءل قد يعني أنك “خائن”، وأن ترفض قد يعني أنك وضعت نفسَك في مرمى الاتهام. وهكذا يصبح التصفيق طوق نجاة، وتتحوّل الطاعة إلى وسيلة للبقاء. والنتيجة أن الاستبداد يصبح عادة جماعية، ثقافة يومية، وليست مجرّد علاقة بين فرد قوي وجماعة ضعيفة. المجتمع كله يربّى على أن الولاء مقدّمٌ على العقل، وأن الانحناء فضيلة وطنية. يُربى الطفل على أن الطاعة فضيلة، فيكبَر وهو يرى أن السؤال خطيئة. يفهم الطالب أن التفكير “خروج عن النص”. ويُلقن الشاب أن النظام أب وأم، فيتعلم أن النجاة تكمن في التماهي مع القطيع. والموظف يعرف أن قول “نعم” أسرع طريق إلى الترقّي. ومع مرور الوقت، لا يعود الحاكم في حاجة إلى فرض الخوف كل يوم، فالناس أنفسهم يراقب بعضهم بعضاً، يتسابقون في إعلان ولائهم، ويحوّلون الخوف إلى نمط حياة. طبعاً، السلطة تعرف كيف تخيف الناس، وكيف تجعل السجن أسهل من السؤال. لكن الخوف وحده لا يفسّر الظاهرة. فالأشد خطورة هو الاعتياد. حين يعتاد الناس على التصفيق يتحول إلى طقس يومي، وإلى ما يشبه تمريناً رياضيّاً للنجاة. ومن ثم، يتم التأسيس لثقافة الطاعة.

مستبد يفرض سطوته، وجماهير تمنحه شرعية الطاعة

هذه القابلية للاستبداد تجعل سقوط المستبدّ وحده بلا معنى. كم من أنظمة انهارت، وكم من قصورٍ فُتحت أبوابها، لكن بعد أشهر أو سنوات عاد الاستبداد بأسماء وصور جديدة. السبب أن الجمهور لم يتغيّر: ما زال يفضّل الأمان الوهمي على الحرية، وما زال يتقن التبرير: “على الأقل، أفضل من الذي قبله”، “على الأقل، لم يقتلنا جميعاً”. كأن الحرية تُقاس بدرجات القمع، وكأن الطغيان يُسوّق بالتقسيط المريح. ليست هذه الظاهرة محصورة في نظام الحكم. نراها في أماكن العمل، حين يتقبل الموظفون ظلم المدير ويصفونه بـ”الحزم”. نراها في الجامعات حين يُكافأ الطائع ويُهان من يحاول الاعتراض. نراها حتى في البيوت، حين يُغلف القهر باسم التربية والطاعة. إنها بنية كاملة، إذا لم تُكسر في تفاصيل الحياة اليومية، تعود لتنتج الاستبداد الكبير على مستوى الدولة.

لم تعد أدوات القهر اليوم كما كانت. لم يعد المستبدّ في حاجة إلى العصا والسيف. صار يملك الإعلام الذي يوزّع الأكاذيب مع قهوة الصباح، ويصنع من صورته بطلاً خارقاً، ويبث أغانيَ وطنية لإغراق الشعب في نشوة مزيفة. الفرق الوحيد أن الميكروفون حلّ محل العصا، وأن الشاشات صارت أوسع من المنابر. أما الجوهر فلم يتغيّر: الجماهير نفسها هي التي تمنح الاستبداد إكسير الحياة. العوام هم خط الدفاع الأول عن السلطة، يطبّعون الأكاذيب على شكل حقائق، ويعيدون تدويرها بلا كَلَال، حتى يغدو الاستبداد طبيعياً في نظر الجميع. ولقد أُضيف اليوم إلى الأبواق الإعلامية التقليدية ما تسمّى الجيوش الإلكترونية والمؤثرين التافهين الذين يلمّعون الصورة ويمحون الخصوم بأقذع الكلمات والأدوات.

صار المستبدّ يملك الإعلام الذي يوزّع الأكاذيب مع قهوة الصباح

ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً، فكما أن الاستبداد ثقافة تُغرس، فإن مقاومته تبدأ أيضاً من الثقافة: من وعي الناس بأن التصفيق ليس واجباً وطنياً، وأن الخوف ليس قدراً، وأن الصمت ليس جريمة. لحظة الوعي هذه، وإن بدت صغيرة، هي التي تقلب الموازين. فالمستبد بلا جمهور ما هو إلا مجرّد رجل ضعيف، متوتر في قصره لا يملك سوى وهم القوة. أما بجماهيره الخانعة، فيتحول إلى كابوس مُعمّر.

لخّص عبد الرحمن الكواكبي هذا المشهد البائس منذ أكثر من قرن، وكأنه يروي حاضرنا، قائلاً: “العوام هم قوتُ المستبد. بهم عليهم يصول ويطول. يأسرهم، فيتهلّلون لشوكته، ويغتصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته. وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريماً، وإذا قتل ولم يمثل، يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى