
في سوريا لم تعد الطفولة كما كانت، فمنذ اندلاع الثورة عام 2011 وجد الأطفال السوريون أنفسهم كباراً فجأة، فملايين منهم عاش تجارب النزوح والشتات، كذلك وُلد كثيرٌ منهم في المخيمات أو ترعرع بين خيام مؤقتة لا تحمل معنى الاستقرار. ومع مرور أكثر من عقد، أصبح واضحاً وجود جيل خسر حقه الطبيعي في عيش طفولة طبيعية وبدت الحاجة ملحة لإعادة تشكيله وبنائه ليصبح جزءًا فاعلًا في مجتمعه.
إننا وفي مقاربة بسيطة ندرك أن الأطفال السوريين الذين عاشوا طفولتهم في بيئة النزوح، واجهوا تحديات في نزوحهم القسري وواجهتهم تحديات جديدة اليوم أيضاً عند العودة إلى مدنهم، فقد أثرت الحرب في هويتهم وسلوكهم، ويتعين على المجتمع والمؤسسات المعنية إعادة دمجهم وتحقيق الإمكانات من أجل ذلك.
عاش الأطفال المهجرين في المخيمات ضمن بيئة قائمة على المؤقت والمجهول، ذلك أنه بالنسبة إلى الطفل الذي يحتاج إلى روتين وأمان وبيئة ثابتة للنمو، فقد قطعت حياة المخيم استمرارية التطور الطبيعي، وفقد كثير من الأطفال سنوات دراسية كاملة، فقد درس بعضهم في مدارس مؤقتة في داخل الخيم، وبعضهم الآخر لم يدخل الصفوف إطلاقًا، عدا عن أن الاعتماد على المساعدات الإنسانية جعل الأطفال يعيشون في مستوى معيشي هش، بلا غذاء متوازن أو ملابس مناسبة أو رعاية صحية كافية.
لقد خسر الأطفال أيضاً جزءاً يسيراً من طفولتهم مع غياب المساحات الآمنة للعب، فبيئة المخيمات والظروف المعيشية هناك لا تمنح الأطفال مثل هذه الرفاهية، لذلك فقد عانوا من طفولة مؤجلة أو مبتورة، جعلتهم مشغولين بالبقاء لا بالاكتشاف والتعلم.
أصبح مفهوم المستقبل مشوّهاً فكثير من الأطفال لا يحلمون بمستقبل واضح ، وعندما يُسأل بعضهم عن أحلامهم، تأتي الأجوبة مرتبطة بالنجاة أكثر من الطموح.
أثرت الحرب على هوية الأطفال وسلوكهم فالحرب لا تُغيّر الخرائط السياسية فقط، بل تترك بصمتها على النفوس، فبات الطفل يملك هوية غير واضحة فلا يعرف معنى الوطن كما يعرفه الآخرون وربما لا يتعدى لديه حكاية يرويها الأهل، حتى أن بعض الأطفال اندمج مع المخيم بحيث أصبح هو وطناً له خاصة أن بعضهم وُلد ونشأ هناك.
لقد جعل الانقطاع عن الأرض والحي والبيت الانتماء هشًا، ومفتوحًا على أشكال جديدة من الهوية مرتبطة بالجماعة الصغيرة في المخيم أو بالثقافة الطارئة هناك، فبات يسيطر على الطفل شعور بأنه بلا جذور وبلا عائلة كبيرة، بسبب تفرق سبل أفراد العائلة، عدا عن عدم معرفته بتفاصيل الحياة في العالم خارج حدود مخيمه.
أثرت الحالة العنفية السائدة على السلوك فمشاهدة القصف، فقدان الأقارب، أو العيش تحت الخوف الدائم تترك آثارًا طويلة المدى، وقد أظهرت دراسات ميدانية مزيجاً من عدوانية مفرطة وحالات انطواء وعزلة ورصدت اضطرابات النوم، وصعوبات في التواصل مع الآخرين، كذلك أصبح مفهوم المستقبل مشوّهاً أيضاً فكثير من الأطفال لا يجلمون لمستقبل واضح ، وعندما يُسأل بعضهم عن أحلامهم، تأتي الأجوبة مرتبطة بالنجاة أكثر من الطموح.
في الآونة الأخيرة ومع محاولات بعض العائلات العودة إلى مدنها أو الانتقال إلى بيئات أكثر استقرارًا، يواجه اليوم الأطفال تحديات معقدة مع وجود فجوة تعليمية كبيرة ونأخر الأطفال عن أقرانهم، وتتضخم المشكلة مع عجز المدارس عن تقديم برامج تعويضية فعالة، يضاف إلى ذلك التعرض إلى صدمة بيئة جديدة فالطفل الخارج من المخيم يدخل مجتمعًا مختلفًا، بعادات جديدة وقوانين أكثر صرامة، وقد يُواجه التنمر أو الإقصاء وقد ينتج عن ذلك علاقات اجتماعية هشة خاصة إذا أضفنا إليها أن معظم صداقات المخيم تُفقد بالانتقال، ما يخلق شعورًا بالوحدة.
إن جيل أطفال المخيمات يواجه معضلة مزدوجة فمن جهة، يحمل أثقال الحرب والحرمان، ومن جهة أخرى، هو الجيل الذي يُفترض أن يشارك في إعادة بناء سوريا مستقبلًا، فإذا تُرك هذا الجيل من دون تدخل، فإن المجتمع سيواجه نتائج خطيرة منها على سبيل المثال لا الحصر: معدلات مرتفعة من البطالة، اضطرابات نفسية، واستمرار لدائرة العنف، لكن إذا جرى الاستثمار فيه، فإن التجربة القاسية قد تتحول إلى دافع للنهوض.
كيف يمكن أن تبدأ إذن عملية إعادة البناء؟
بالدعم النفسي والاجتماعي بداية، وذلك بإنشاء مراكز علاج نفسي متخصصة للأطفال وتدريب كوادر محلية للتعامل مع الصدمات، بدلاً من الاعتماد الكلي على المنظمات الأجنبية، وتنفيذ برامج علاج جماعي تساعد الأطفال على التعبير عن مشاعرهم.
لا يشعر أطفال المخيمات بالانتماء لا للمخيم ولا للوطن، بل يعيشون بين عالمين غير مكتملين إن أطفال الحرب في سوريا هم الجرح الأكثر عمقًا، لأنهم ليسوا مجرد متضررين من النزاع، بل هم حاملون لمستقبل بلد كامل.
بالترافق مع تطبيق برامج التعليم التعويضي وفتح صفوف خاصة لسدّ الفجوات التعليمية، تراعي العمر العقلي لا الزمني فقط، وصياغة مناهج مبسطة تُعيد الثقة بالقدرة على التعلم، مع إدماج الأنشطة الإبداعية والفنية كجزء من عملية التعويض وخلق مساحات للعب والفنون ونشاطات رياضية وثقافية تتيح للأطفال التعبير عن أنفسهم، وصناعة ورشات فنون ومسرح تساعدهم على إخراج ما عاشوه بطريقة آمنة.
من ناحية أخرى من الضروري تطبيق برامج تدريب للأهالي حول كيفية التعامل مع الأطفال المتأثرين بالصدمات، وتقديم دعم اقتصادي للعائلات لتقليل اعتماد الأطفال على العمل المبكر.
يبرز هنا دور المجتمع المحلي والدولي بخلق بيئة متقبلة للأطفال العائدين، بمنع التنمر والتمييز وتوفير دعم مالي وتقني لبناء المدارس والمراكز وتطبيق استراتيجيات طويلة الأمد، تجعل الأطفال قادرين على تجاوز الماضي بتوفير الأمان والدعم.
لا يشعر أطفال المخيمات بالانتماء لا للمخيم ولا للوطن، بل يعيشون بين عالمين غير مكتملين إن أطفال الحرب في سوريا هم الجرح الأكثر عمقًا، لأنهم ليسوا مجرد متضررين من النزاع، بل هم حاملون لمستقبل بلد كامل، ذلك أن ما عاشوه في المخيمات سيبقى أثره طويلًا، لذلك من الواجب إعادة تشكيلهم وبنائهم عبر برامج متكاملة تعالج الجانب النفسي، التربوي، والاجتماعي.
تبدو الخيارات أمامنا واضحة: فإما أن يُترك هؤلاء الأطفال رهائن لماضيهم، أو يُمنحوا فرصة لبناء مستقبل مختلف، وفي كلتا الحالتين، هم الجيل الذي سيحمل سوريا غدًا، لذلك فإن التعامل معهم اليوم ليس مجرد استجابة إنسانية، بل استثمار في وجود وطن كامل.
المصدر: تلفزيون سوريا