
أسقط البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) يوم الاثنين 8 سبتمبر/ أيلول الجاري حكومة فرانسوا بايرو الذي كان سعيه إلى نيل ثقة ممثلي الأمة مهمة شبه مستحيلة، وهذا ما ظهر واضحاً في نتيجة التصويت؛ 364 نائباً لصالح حجب الثقة مقابل تأييد 194 فقط، رغم خطاب التجييش والحشد للخطوة بأنها إجراء “شجاع وديمقراطي”، ولحظة مصيرية للاختيار ما بين الفوضى والمسؤولية، بتعبير رئيس الوزراء، ولم يتردد وزير الداخلية بروتو ريتيلو في استعارة قاموس عتيق من ساسة العالم الثالث، حين اعتبر “التصويت لإسقاط الحكومة تصويتاً ضد مصالح فرنسا”.
فشلت حكومة بايرو في الحصول على 289 صوتاً من أصل 577 إجمالي مقاعد الجمعية الوطنية، ليصبح الرجل سادس رئيس وزراء في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون بعد إدوار فيليب (2017-2020) وجان كاستكس (2020-2022) وإليزابيت بورن (2022-2024) وغابريال أتال (ثمانية أشهر) وميشال بارنييه (ثلاثة أشهر)، والرابع منذ بداية ولاية الرئيس الثانية عام 2022، في حدث غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة منذ إعلانها عام 1958.
رفض النواب الفرنسيون منح ثقتهم لحكومة بايرو مردّه خطة الرجل لإنعاش المالية العامة وكبح جماح الدين العام المتضخم، الذي وصل إلى 5,8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، متجاوزا بذلك سقف 3% المحدّد من الاتحاد الأوروبي، فقد اقترح مشروع موازنة يرمي إلى توفير 44 مليار يورو من الإنفاق، وخفض العجز إلى 4,6% فقط، بقائمة إجراءات مثيرة أبرزها إلغاء عطلتين رسميتين لدفع الفرنسيين نحو مزيدٍ من العمل، ما اعتبره هؤلاء إحدى الكبائر، فما من مسوّغ لإقناعهم بأداء ثمن سوء تدبير حكومات ماكرون المتعاقبة.
أدرك فرانسوا بايرو أن بقاءه في قصر بوربون مستحيل، فحكومتُه التي كانت مجرّد ائتلاف اضطراري في مناورة سياسية لآخر الوسطيين في فرنسا، تمشي طوال تسعة أشهر على حبل مشدود فوق مشهد سياسي متقلب. لكن ذلك لم يحُل دون تعريته المشهد السياسي العقيم أمام الفرنسيين في المرآة، محذّراً أي حكومة مقبلة من المشكلات نفسها، فخاطبهم بعيداً عن أي شعوبية أو مزايدات داخل البرلمان قائلا: “لديكم القدرة على إسقاط الحكومة، لكن ليس لديكم القدرة على طمس الواقع. سيظل الواقع قاسيا… النفقات ستواصل الارتفاع، وعبء الدين، الذي هو كبيرٌ جداً بالفعل، سيزداد ثقلاً وتكلفة”.
لم يجد كلام زعيم الوسطيين في فرنسا بشأن عمق المأزق السياسي آذاناً صاغية لدى ماكرون، الذي فضّل مواصلة لعبة الترقيع، رغم بلوغ شعبيتها أدنى مستوياتها (33%)، فتحرّك مسرعاً، في يوم استقالة بايرو، لتسمية ثالث رئيس وزراء خلال عام واحد، والخامس منذ عام 2022. واختار لهذه المهمة وزير الدفاع سيباستيان لوكورنوك الذي حافظ، بفضل قربه الشديد من ماكرون، على حضوره في ست حكومات منذ انتخاب الرئيس 2017.
ضربت “الماكرونية” بالإرث السياسي الفرنسي عرض الحائط، بعدما حوّل ماكرون قيادة الدولة إلى مغامرةٍ بنزعةٍ فردية
تزامن التعيين مع تاريخ 10 سبتمبر/ أيلول موعد الشروع في البرنامج النضالي لحركة “لنغلق كل شيء” التي سطرته قبل أشهر حركات التعبئة الرقمية، المعروفة اختصاراً بـ “2.0”، وأكسبته خطّة بايرو التقشّفية مزيداً من المشروعيّة، فخرج آلاف المتظاهرين في كبرى المدن الفرنسية، في مشاهد تعيد إلى الأذهان حركة السترات الصفراء، للاحتجاج على سياسات الرئيس ماكرون، بعدما باتوا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى، أن الشارع هو المكان الذي يجب أن تمارس فيه السياسة.
أيا تكن الحكومة التي سيشكلها رئيس الوزراء الجديد لوكورنوك في مستقبل الأيام، فالمؤكّد أنه يصعب أن تنال ثقة البرلمان والشارع في آن واحد، لأن المشكلة الحقيقية تتعدّى نطاق الحكومة لتسائل أداء النظام السياسي القائم في البلاد منذ وصول ماكرون إلى الإليزيه، فالرجل الذي دخل عالم السياسة حديثاً لم يتخلص من عقليته المصرفية، فهو يتعامل مع الدولة بمنطق الشركة دون أي اعتبار للتقاليد السياسة العريقة، ما وضعه غير ما مرة في تناقض، وسبق لصحيفة ليبراسيون أن لخصت أسلوبه في الحكم بقولها: “الفرد يلعب، لكن الدولة تضمن له الأدوات اللازمة للعب”.
انتظر كثيرون مع تأسيس حركة “إلى الأمام” عام 2016، وتحوّلت لاحقاً إلى حزب سياسي باسم “النهضة”، توجّهاً إيديولوجيا أو أطروحة سياسية جديدة، تنتشل المشهد السياسي الفرنسي الراكد من جموده بين ثنائية اليمين واليسار. لكن الرجل أراد أن يكون هو نفسه التيار، في مسعىً غير معلن إلى استعادة أمجاد مؤسّس الجمهورية الخامسة شارل ديغول، فشكل تياراً حوله يضم خليطاً هجيناً لشخصياتٍ من اليمين واليسار، تدور في فلك الرئيس، لا باعتبارهم قادة ومناضلين، بل مجرّد مساعدين للزعيم.
ضربت “الماكرونية” بالإرث السياسي الفرنسي عرض الحائط، بعدما حوّل ماكرون قيادة الدولة إلى مغامرةٍ بنزعةٍ فردية، كأنه مدير تنفيذي لشركة دولية، مستلهماً نموذج الإدارة الأميركية لكن بروح فرنسية، رغم دخوله لحظة انحسار لا تخطئها العين، سعياً باعتقاده إلى تجاوز أعطاب السياسة التقليدية. وابتدع لأجل ذلك مسمّى “الطريق الثالث” الذي يجعله منفلتاً من أي تصنيف أو عقال، فالمواقف في مجملها سائلة فهو دون اليمين هنا وأكثر تشدّداً منه هناك، بحسب ترمومتر الأوضاع في الداخل الفرنسي، فتارة يزايد على المتطرّفين ليكون أكثر تشدّداً منهم في مواضيع، مثل الهجرة والإسلام، وتارة أخرى يحوّلهم إلى فزّاعة لاستمالة شريحة واسعة من يسار فقد البوصلة.
أضحى رئيس الوزراء الفرنسي مجرد “موظف” لدى الرئيس الذي باتت بيده إدارة البلاد
تعاقب الأزمات السياسة في فرنسا بوتيرةٍ سريعة، يتعدّى مشكلة انزلاق الحياة السياسية نحو استقطابٍ حادٍّ بين اليسار واليمين، كما فسّره مراقبون، نحو أزمة أعمق تجعل فرنسا بلدا غير قابل للحكم في أنظار كثيرين، مع وجود شخص طارئ على السياسة، مثل إيمانويل ماكرون، يمعن في استغلال السلطات المتركزة في يد الرئيس إلى أقصى الحدود، فبعد التعديل الدستوري لعام 2008 أضحى رئيس الوزراء مجرد “موظف” لدى الرئيس الذي باتت بيده إدارة البلاد.
تأتي مغامرة ماكرون لاستنساخ تجربة الجنرال ديغول بمفعول عكسي، فبدل أن تشق الماكرونية طريقها خيارا ثالثا يسعى لاجتراح حلول لأزمات دولة مترهلة، خسرت الكثير من مستعمراتها في أفريقيا واهتزّت مكانتها في نادي الخمس الكبرى، شرعت في هدم أسس الجمهورية الخامسة، وزجّ فرنسا في دوّامة التيه والاضطراب، إلى درجة أن الناطقة الرسمية باسم الحكومة صوفي بريماس، لمّحت إلى ذلك قبل أشهر حين اعتبرت أن “الماكرونية ستكتب نهايتها على الأرجح في الأشهر المقبلة مع نهاية الولاية الثانية للرئيس ماكرون.. والسؤال هو كيف سنعيد بناء المرحلة التالية؟”.
المصدر: العربي الجديد