
حين يتحدث الأمريكيون عن بلدهم، يقدّمونه باعتباره نموذجاً متفرداً في الحرية والديمقراطية، ومختبراً مفتوحاً لتجربة الحقوق المدنية التي تُلهم العالم. لكن حين ننظر إلى الأرقام الموثقة لضحايا عنف الشرطة داخل الولايات المتحدة، تتبدّد هذه الصورة المثالية لتطل أمامنا حقيقة صادمة: دولة تتفاخر بدستورها وبنظامها السياسي، لكنها تعجز عن كبح نزيف داخلي متصاعد. فبحسب تقرير تفاعلي لصحيفة واشنطن بوست حول القتلى الذين سقطوا على أيدي الشرطة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، كانت الحصيلة على النحو التالي:
عام 2020 بلغ عدد القتلى 1,126،
عام 2021 ارتفع إلى 1,134،
عام 2022 واصل الإرتفاع إلى 1,201،
عام 2023 تخطى العدد 1,329،
عام 2024 تجاوز 1,365 قتيلاً.
هذه الأرقام لا تُعد مجرد إحصاءات جامدة، بل هي أرواح أُزهقت ومجتمعات مزّقتها المآسي، كما أنها تكشف عن مأزق عميق في البنية الأمنية الأمريكية، حيث يُفترض أن تكون مهمة الشرطة حماية الناس لا إزهاق أرواحهم.
المفارقة أن هذا النزيف البشري يحدث في بلد طالما استخدم خطاب “حقوق الإنسان” ذريعة للتدخل في شؤون العالم، ولإدانة الآخرين وتقديم نفسه معياراً للحرية. غير أن الواقع يكشف أن العنف البنيوي داخل مؤسسات الأمن الأمريكية ليس ظاهرة عابرة، بل هو نمط متكرر يستمر كل عام بمعدلات آخذة في التصاعد. لقد هزّت حوادث شهيرة مثل مقتل جورج فلويد عام 2020 صورة المؤسسة الشرطية، وأشعلت احتجاجات هائلة في الشوارع، ومع ذلك لم تؤدِ إلى إصلاح حقيقي. بل إن الأرقام اللاحقة أوضحت أن الظاهرة لم تتراجع، وإنما ترسّخت بأبعاد أكثر خطورة، ما يدل على فشل محاولات الإصلاح المعلنة أو على غياب الإرادة السياسية الكاملة لمواجهة الجذور العميقة لهذه المعضلة.
وحين نتأمل هذه الأرقام نجد أن المسألة ليست أمنية فحسب، بل تحمل بعداً اجتماعياً وعرقياً واضحاً . فالإحصاءات المستقلة تؤكد أن المواطن الأسود أكثر عرضة للموت على يد الشرطة بثلاثة أضعاف مقارنة بالمواطن الأبيض، وهو ما يكشف استمرار تراكمات تاريخية من العنصرية البنيوية في قلب المجتمع الأمريكي. ومع ذلك لم أتطرق هنا إلى تفاصيل العنف العنصري الأبيض ضد السود، لأن ذلك يحتاج إلى ملف مستقل بذاته( أعمل عليه )، لكن مجرد الاعتراف بهذه الحقيقة يكفي لتبيان عمق التناقض في التجربة الأمريكية التي تقدم نفسها للعالم باعتبارها منارة للمساواة.
ويزداد المشهد قتامة حين ندرك أن معظم هذه الأرقام لم تأتِ من مؤسسات الدولة نفسها، بل من جهود الصحافة الاستقصائية ومنظمات المجتمع المدني. فالمحاولات الرسمية التي يقودها مكتب التحقيقات الفيدرالي لجمع بيانات عن “استخدام القوة” تعاني من ثغرات كبيرة بسبب أن المشاركة في هذا البرنامج اختيارية، الأمر الذي يجعل الصورة ناقصة وغير دقيقة. وهنا يتبدى عجز الدولة عن مواجهة نفسها أولاً، وإصرارها على التستر خلف خطاب الحرية الخارجي في الوقت الذي تفشل فيه في إنقاذ مواطنيها من عنف جهاز يفترض أن يكون لخدمتهم.
إن موقفي الشخصي من هذه القضية لا ينطلق من الدفاع عن طرف أو تبرير قتل من طرف على حساب آخر. أنا ضد القتل والعنف بكل أشكاله وصوره، أياً كانت الذرائع أو السياقات. لكنني أصرّ على أن مواجهة الحقيقة ضرورة أخلاقية وسياسية، لأن التغاضي عنها أو تبريرها يفتح الباب لمزيد من المآسي. هذه الأرقام يجب أن تقرأ كما هي، بلا تزييف أو تلطيف، فهي المرآة التي تعكس حقيقة عميقة عن النظام الأمني الأمريكي الذي لم يعد بإمكانه الاختباء خلف شعارات الديمقراطية.
وحين أكتب عن هذه الظاهرة، فإن هدفي ليس التشهير بالشعب الأمريكي ولا الانجرار إلى مقارنات عاطفية، بل محاولة إضاءة شمعة في الظلام القابع في عقول البعض ممن ما زالوا يختزلون الآخر في صور نمطية جامدة تقود إلى الشيطنة أو إلى الرصاصة. نحن جميعاً في حاجة إلى تحطيم هذه الصور النمطية، وإلى استعادة إنسانيتنا المشتركة التي ترفض العنف وتتمسك بالحق في الحياة. وإذا كان من درس يمكن أن نتعلمه من هذه الأرقام المروعة، فهو أن الديمقراطية ليست شعارات للاستهلاك الخارجي، بل مسؤولية تبدأ من الداخل، من قدرة الدولة على حماية حياة مواطنيها قبل أن ترفع صوتها بالمواعظ على الآخرين.