ماذا وراء خطاب “قسد” التصعيدي؟

أحمد مظهر سعدو

الخطاب السياسي المتشنّج والعدائي الذي تطلقه (قسد) وتوابعها، يعيد إنتاج الواقع في شمال شرقي سوريا، وضمن الجغرافيا السورية، على أسسٍ وبناءاتٍ جديدة، قد لا تُبشِّر بالخير، ولا تعطي انطباعًا موضوعيًا يشي بأنّ أهل (قسد) يسيرون باتجاه الحلّ السياسي، أو الاندماج في مؤسّسات الدولة السورية الجديدة.

ولعلّ الاستمرار في هذا التصعيد عدائيًّا ضد الحكومة السورية، وضمن سياقات الاندراج في حالةٍ مناهِضة، وهجومٍ متواصلٍ على كلّ منتجات الحكم الجديد في سوريا، هو المدخل المباشر الذي تريده (قسد) من أجل المضيّ في حالة التمنّع، ومن ثمّ تنفيذ بنود الاتفاق الذي تم توقيعه بين مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع في ١٠ آذار/مارس المنصرم، والذي وضع حينها خطوطًا عريضة ومهمة من أجل تنفيذها، وصولًا إلى حالة إنهاء ظاهرة التشظّي والتقسيم التي سارت عليها (قسد) منذ أن نشأت.

التصعيد في الخطاب السياسي (القَسْدي) المتواصل مؤخرًا ضدّ حكومة دمشق، واستمرار حالات التمنّع في إنفاذ جُلّ بنود اتفاق (عبدي–الشرع)، وانتظار ما سيؤول إليه الوضع في الجنوب السوري.

كلّ مسارات هذا المشهد تشير، وبوضوح، إلى أنّ السقف الزمني الذي حدّده الاتفاق بين عبدي والشرع، المشار إليه آنفًا، وهو نهاية العام الحالي 2025، قد بدأ ينفد، ولم يبقَ إلا القليل من الأشهر على ضرورة الالتزام به وتنفيذه كما ورد في بنود النصّ المُسطر في الاتفاق.

يقول بعضهم إنّ (قسد) ما برحت، منذ زمنٍ ورغم توقيع الاتفاق المنوَّه عنه، تراهن على استمرار الدعم الأميركي والوعود الأميركية التي تمكّن (قسد) من البقاء خارج إطار الدولة السورية، ومن ثمّ فرض شروطها على حكومة دمشق، وبعدها الاستمرار حثيثًا في إعادة طرح موضوع اللامركزية السياسية، التي تُعيد طرحها بين الفينة والأخرى، وكلّما سمحت لها الظروف السياسية والإقليمية، وتتمسّك بها بشكلٍ متصلّبٍ ومتشّنِّج، في مواجهة محدّدات اللامركزية الإدارية التي هي الأقرب عمليًا إلى التطبيق، أو احتمالات القبول والموافقة من حكومة دمشق. كما أنّ تمسّك (قسد) بموضوع بقاء (العسكرتاريا القَسْدية) ككتلةٍ واحدة غير مُفتّتة، ولا مُنْدَمجة في المؤسّسة العسكرية السورية الحكومية، وضمن حيزٍ جغرافيٍّ بعينه في شرق الفرات، هو المطلب الثاني الذي لا يمكن أن توافق عليه الحكومة السورية، لأنّه بالضرورة سيؤدّي، عاجلًا أو آجلًا، إلى الانقسام والتفتّت، وفتح الباب على مصراعيه نحو المزيد من حالات إقامة كياناتٍ انفصالية، تكون طريقًا معيّنًا، من أجل تفتيت الدولة السورية، وهو ما تُراهن عليه (قسد) بعد مطالبات حكمت الهجري ومجموعته العسكرية بالانفصال عن سوريا، ثمّ طلبه الدعم الأميركي والإسرائيلي لتحقيق ذلك، وهو ما تراه (قسد) محطةً مواتيةً لها ولمطالبها، يجب الانتظار عندها، عسى أن يستفيد الواقعُ شمالَ شرقِي سوريا من متغيّراتها إنْ حصلت، وبالتالي يستفيد من نتائجها المحتملة.

لكنّ التصعيد في الخطاب السياسي (القَسْدي) المتواصل مؤخرًا ضدّ حكومة دمشق، واستمرار حالات التمنّع في إنفاذ جُلّ بنود اتفاق (عبدي–الشرع)، وانتظار ما سيؤول إليه الوضع في الجنوب السوري، كذلك محاولات التشبيك مع بعض فلول نظام بشار الأسد، لن يؤتيَ أُكُلَه، وسوف تكون المآلات صعبةً وداميةً لا يريدها السوريون؛ إذ لم يعد أحدٌ من السوريين، عمومًا، يقبل بمزيدٍ من الدماء السورية. كما أنّ الوضع شمال شرقي سوريا هو الآخر يُشكّل خطرًا، ليس على السوريين فحسب، بل على مجمل حيثيّات ومحدّدات الأمن القومي التركي، خاصةً بعد أن حلّ حزبُ العمال الكردستاني نفسه، وهو ما سيدفع بالضرورة الحكومة التركية إلى مزيدٍ من الدعم العسكري للسوريين، وقد يكون التدخّل التركي المباشر (بعد أخذ الموافقة الأميركية) لإنهاء ظاهرة (قسد) والميليشيا التي لا تثق بها تركيا، ولا يمكن أبدًا أن تتركها للسيطرة على مساحاتٍ وحدودٍ طويلةٍ جدًّا بينها وبين تركيا. وعلى هذا الأساس، وضمن هذه المعطيات، فإنّ المسألة هنا معقّدةٌ جدًّا، وخيارات (قسد) الحالية المتتابعة والعبثية في السياسة و«العسكرتاريا» ما زالت غير عقلانية، واشتغالها المستمر على التفتيت والتشظّي في الحالة الوطنية السورية، عبر إقامة المزيد من المؤتمرات المتتابعة التي تعقدها، يُسهم – من حيث تدري أو لا تدري – في كثير من التمسّك لدى حكومة دمشق من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ومنع أيّ محاولاتٍ قَسْدية أو سواها لتفكيك الجغرافيا السورية.

إنّ بناءَ الوطن السوري الواحد الموحّد غايةٌ لا يمكن التراجع عنها، وإعادةَ بناء سوريا دولةِ المواطنة مسألةٌ مهمّة وملحّة، بعد أن افتقدها السوريون لعقودٍ طويلة من القمع والاستبداد الأسدي.

ما غاب أو يغيب عن مِنظار السياسة لدى أهل (قسد) أنّ الأميركان يتحرّكون في طريقهم إلى التخلّي عن دعم (قسد) كليًّا. ومن يتابع مسارات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط يرى أنّ اللحاف الأميركي الذي يتغطّى به أهل (قسد) لن يطول وجودُه طويلًا، لأنّ مصلحة أميركا مع وجود حكمٍ سوريٍّ في دمشق مركزٌ قويٌّ ومتماسك، وليست مصلحتُها مع بقاء ميليشيا كردية قَسْدية متناحرةٍ ومتشظّية. كما أنّ تركيا، العضو في حلف الناتو، ثمّ العلاقات الأميركية–التركية القوية والمُتماسكة، لا يمكن أن تُقايضَ أميركا بها (قسد) وميليشياتِها؛ فتركيا الدولة الكبرى والقوية هي الأهمّ والأبقى للسياسة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهي المهمة جيوسياسيًّا للسياسات الأميركية على المدى البعيد.

ولعلّ متابعة هذا المشهد الواضح سوف يُفضي إلى مزيدٍ من شدّ الخناق حول عنق أهل (قسد). وهم، إن لم يستفيقوا من رقادهم ويعودوا إلى سوريتهم، فإنّ مآلاتهم ستكون صعبة… في حين الحلّ الآن ما زال متوفّرًا، وتنفيذ الاتفاق ما برح ممكنًا، والاندماج الآن ضمن مؤسّسات الدولة الوطنية السورية ما زال حاضرًا ومتاحًا. وعلى (قسد) أن تُسارع إلى الاندماج قبل أن تفقد كلّ متطلّباتها دفعةً واحدة، فيما لو اختارت الحلّ العسكري، الذي لا يريده السوريون أبدًا، ولا أحد من السوريين يودّ أن تكون هناك أيّةُ حروبٍ جديدةٍ وتضحياتٍ أخرى.

إنّ بناءَ الوطن السوري الواحد الموحّد غايةٌ لا يمكن التراجع عنها، وإعادةَ بناء سوريا دولةِ المواطنة مسألةٌ مهمّة وملحّة، بعد أن افتقدها السوريون لعقودٍ طويلة من القمع والاستبداد الأسدي. فهل هناك من يسمع لصوت العقل؟ ثمّ يُعيد بناء أسس التفكير العقلاني؟ كما يُعيد للسياسة عقلانيّتها المنشودة والمُبتغاة؟

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى