
دولة ما بعد الاستقلال فى العالم العربى، تشكلت فى ظل مجتمعات انقسامية –باستثناء مصر والمغرب ونسبيا تونس- لم تكن مكوناتها القبائلية والعشائرية والطائفية والدينية والمذهبية، وأنماط الإنتاج وعلاقاته، تشكل مفهوم الأمة على النمط الغربى للدولة/ الأمة القومية من ثم اتسمت الدولة بالهشاشة البنيوية والرمزية، واختلط مفهومها بالنظام السياسى، وبالسلطة الحاكمة –أيا كانت- وبالحاكم المتغلب، ومراكز القوة حوله ، وأتباعه والموالين له. من ثم ولدت الدولة غائمة فى الوعي الجمعى لصالح السلطة. كان الخطاب السياسي حول السيادة مسيطرًا، ومختلطا بالحكم والحاكم ، وفى الوعي الجمعى، ومن ثم سادت مخاطبة رئيس الجمهورية، بسيادة الرئيس، والملك بلفظ الجلالة –جلالة الملك- والأمير والشيخ بصفة السمو، وذلك فى ظل أوصاف تمجيدية، مستمدة أساسا من اللغة الدينية الموروثة، أو من بعض اللغة الدستورية الحداثية دون دلالاتها .
الملاحظ تاريخيا أن السيادة، كانت رمزية فى ظل هشاشة الدولة، ومفهوم الوطنية المتشظي من خلال الإنتماءات إلى القبيلة والطائفة، والديانة والمذهب، والعرق، والمنطقة. من ناحية أخرى، كانت الاختلالات سائدة فى علاقات الدولة، والنظام الدولي ، وخاصة أثناء الحرب الباردة وما بعدها، حيث اتسمت بالخلل الهيكلى فى علاقات الدول العربية الخارجية بين هذه الدول/ السلطات الحاكمة، التابعة، وبين المركز الإمبريالى الغربى أساسا، وتزايدت هذه التبعية مع نهاية الحرب الباردة، وتطبيق السلطات العربية الحاكمة السياسات النيوليبرالية الوحشية، ومن ثم خضوعها لسياسات المركز النيو إمبريالي الغربي، والمؤسسات التمويلية الدولية كصندوق النقد الدولى، والبنك الدولى، وغيرهم من المؤسسات التمويلية، فضلا عن انفجار المديونيات الخارجية لهذه الدول. من ثم أدت هذه السياسات مع العولمة، وهيمنة الشركات الرأسمالية الكونية الكبرى على سياسات الدول، والمنظمات والمؤسسات الدولية، والإقليمية. ترتب على ذلك تأثيراتها على بعض سياسات الدول عامة، والدول العربية، وفى جنوب العالم. علي وجه الخصوص .
من هنا تراجع مفهوم السيادة الوطنية للدول على الرغم من هيمنة، وصخب خطاب السلطات العربية حول السيادة الوطنية، وتوظيفاته فى الضبط والسيطرة السياسية، وتزايد طغيان هذا الخطاب السياسى، ومفارقته للواقع السياسى لهذه السلطات ولمفهومي السيادة والوطنية معًا. لاشك ان تأكل مفهوم السيادة مع الثورة الرقمية والنيوليبرالية الرأسمالية وشركاتها الكونية ادي إلي ممارسة الضغوط علي الدول في شمال العالم في ظل هيمنة الولايات المتحدة مع سياسات الإدارة الجمهورية لترامب ، وتزايدت حالة الوهن علي الدول المتوسطة ، والأخطر علي الدول الفقيرة في جنوب العالم ، وخاصة دول العسر العربية ومجتمعاتها الأنقسامية ، وهو ما ادي الي تزايد عنف سلطات هذه الدول علي مجتمعاتها ،علي نحو فاقم من حالة المجتمع ضد الدولة كما كان الوضع في سوريا قبل انهيار النظام البعثي ، وتفكك أجهزة الدولة الهشة في اليمن ، والسودان ، بعد سقوط نظام عمر البشير ، وتفكك الدولة الليبية بعد سقوط نظام القذافي .
مع الثورة الرقمية، والذكاء التوليدي، والشركات الرأسمالية الرقمية النيوليبرالية، باتت مؤثرة على سياسات الدول، ومعها مفهوم السيادة الذي بات يتراجع ، وخاصة فى دول جنوب العالم التابعة ، وباتت الدول العربية، تلهث وراء القروض والمساعدات لاسيما فى دول العسر، حيث تؤثر سياسات مؤسسات التمويل الدولية علي السياسات الاقتصادية والتشريعية والاجتماعية ، أو فى محاولات هذه الدول المعسورة متابعة بعض من التطورات التقنية فى مجال الذكاء الاصطناعي التوليدى لاسيما من السلطات الحاكمة فى دول اليسر المالي النفطية، كمحاولة فى الخروج من دوائر الريع النفطي إلى اقتصاديات ما بعد النفط، ومع ذلك تظل هذه السياسات لاستيراد تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، والخامسة أسيرة سياسات المركز النيوامبريالى، وشركات الرقمية النيوليبرالية، فى ظل سيطرتها على هذه المجالات وأسرارها التقنية.
الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي بات يشكل احد ابرز الفجوات بين الأجيال ، وانتج فجوات جيلية بين أجيال Y وZ وستتفاقم مع جيل بيتا ، وستؤدي إلي تناقضات واسعة في الإدراك والوعي لدي هذه الأجيال وخاصة مع القيادات السياسية الاستبدادية والتسلطية المتغلبة في هذه البلدان ، وهو ما سيُحد من قدرات هذه القيادات السياسية – او اللاسياسية – علي السيطرة والحكم ، ومن ثم ستتفاقم مشكلات هذه السلطات الحاكمة ، ويدفع إلي انتفاضات واحتجاجات واسعة ومتتالية تتكرس معها، حالك المجتمع ضد الدولة التي اختلطت بالسلطة الاستبدادية او التسلطية .
غالبا ما تلجأ السلطات المستبدة والتسلطية – ودمج سلطات الدولة الثلاث في السلطة التنفيذية حول الحاكم – الي اللجوء الي إصدار القوانين لاسيما العقابية والإجراءات الجنائية والإدارية وغيرها لضبط السلوك الاجتماعي ، وقمع محاولات الخروج علي القوانين ، إلا ان الملاحظ في بعض الدول العربية المعسورة تزايد ظواهر الانفصال بين الانساق القانونية – أيا كانت مجالات تنظيمها – وبين الواقع الاجتماعي ، الذي يشهد تزايدا في ظواهر انتهاك هذه القواعد القانونية ، وتجاوزها في الحياة اليومية ، وفي العلاقات بين االافراد بعضهم بعضا ، ومن ثم تهيمن علي العلاقات الاجتماعية ، وبين الأفراد علاقات القوة علي الأساس الطائفي او الديني والمذهبي والقبلي والعشائري والعائلي والعرقي واللغوي في المجتمعات العربية التي تتسم بالسمات الانقسامية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان وليبيا ..الخ . بعض أنماط الخروج علي القانون الرسمي مرجعها سطوة بعض قانون المكانة والسلطة والثروة والنفوز ، في بعض مجتمعات اليسر والعسر معًا ، وتزايد الفجوات الطبقية بين السراة عند قمة النظام الاجتماعي ، وبين الأغلبيات الشعبية عند خطوط الفقر او ماوراءها ، وتزايدت هذه الفجوات مع أزمات الطبقات – او الفئات الوسطي وشرائحها المختلفة – وهو ما ادي الي ضعف الوظائف الردعية والمنعية للقواعد القانونية ، ومن ثم تمدد الفجوات بين القانون وعلاقات الواقع الموضوعي ، وظواهره ومشكلاته وأزماته المتراكمة منذ دولة مابعد الاستقلال في غالبية الدول والمجتمعات العربية . تشكل عمليات الخروج علي قانون الدولة / السلطة احد علامات عدم التوازن بين المصالح المتعارضة والمتصارعة بين الطبقات – الفئات الاجتماعية وشرائحها المختلفة – ، ومن ثم غياب او تشوش مصطلح الصالح العام او المصالح العامة ، او الأمن العام والوطني ، وغيرها من المصطلحات التي فقدت معناها ودلالاتها في الممارسات السلطوية ، وفي الوعي شبه الجمعي الذي ينطوي علي تشوش ، وعدم تبلور لسماته نظرا للقيود علي الحريات العامة والشخصية ، وأثرها السلبي علي حريات البحث العلمي ، والرأي والتعبير .
من الملاحظ ان الشعبوية السلطوية مابعد الربيع العربي المجازي في بعض الدول العربية ، تجسدت فيها دمج السلطات مجددا ، وغياب الفصل بين بعضها بعضاً ، ومن ثم الرقابات المتبادلة وتوزيع القوة فيما بينهم . تبدو سياسة ميل السلطتين التشريعية والقضائية إلي تمثل توجهات السلطة التنفيذية في أداءهم لرظائفهم ، وذلك علي نحو ما مثل تهديدا لضمانات استقلال القضاء والجماعات القضائية ، علي نحو ماتظهره الخطابات النقدية التونسية المختلفة والمعارضة لمحاكمات بعض المعارضين لسياسة رئيس الجمهورية قيس سعيد .
أن نظرة على أوضاع غالب الدول الهشة العربية –باستثناء مصر والمغرب- تشير إلى تفاقم مشكلاتها مع الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية ، والنيوليبرالية الاقتصادية ، لاسيما فى ظل تخلف الأنظمة والأجهزة البيروقراطية، وقدراتها على إفشال محاولات تطويرها رقميا وتقنيا. مرجع ذلك ضعف التخصصات والخبرات المهنية والوظيفية والإدارية، وانتشار الفساد الإدارى والوظيفي، وعلى رأسها اختلاس المال العام واستباحته من بعضهم، والرشَّي فى تقديم الخدمات للمواطنين، وفى انتهاك القوانين واللوائح، على نحو ما يظهر فى تنظيم المرور، وفى المحليات، ورخص البناء، أو البناء دون ترخيص، في أراضي الدولة على نحو أدى إلى فوضى وتشويهات للتخطيط العمراني، والاعتداء على الأراضي الزراعية، وثبويرها وتحويلها إلى أراضي للبناء كما حدث فى بعض الحالات العربية.وتحطيم التراث المادى التاريخي في عديد البلدان . ادي السلوك الإداري الفاسد إلي إنتاج فوائض كبرى من ثقافة الفساد، والتحايل من الموظفين العموميين، ومن المواطنين على نحو ساهم فى تشكيل اتجاهات حالة المجتمع ضد الدولة إذا شئنا استعارة الحالة السورية تحت حكم البعث وعائلة الأسد ، وأجهزتها الفاسدة في سوريا، ودول أخري .
أدت فشل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية الوحشية إلى تهميشات وإقصاءات لعديد من المكونات الأساسية فى المجتمعات العربية، على نحو أدى إلى تمركزها النسبى حول بعض من ثقافاتها، وهوياتها، ورموزها، وسردياتها التاريخية حول ذاتها! وسيادة النزعة الارتيابية إزاء المكونات الأخرى والدولة، والسلطة الحاكمة، على نحو أدى إلى ضعف بعض الروابط بين هذه المكونات بعضها بعضا، وحرص كل مكون على تماسكه الداخلى، والنظرات والإدراكات الجماعية والمواقف المحمولة على الشكوك والارتياب والحذر إزاء سياسات وقرارات وقوانين السلطة الحاكمة . تشير بعض مظاهر الفوضى، واللا نظام فى عديد المجتمعات العربية. إلى تشكلات لما يمكن أن نطلق عليه ثقافة الفوضى، أو حالة المجتمع ضد الدولة، وضد النظام، وذلك من خلال أنماط من السلوك الاجتماعى، وبعض القيم والمقولات التى لا تأبه بالسلطة السياسية، وتتظاهر بقبولها، إزاء عنف جهاز الدولة الأمنى والبيروقراطى، لكن فى وعيها الجمعى، وتنسب إليها الفساد، وعدم العدالة، وطابعها القمعى الاستبدادي والتسلطى، واغتيالها للحريات العامة، والشخصية، وتنسب إلى رموزها كل المثالب والأخطاء والمشكلات ، الي بناء القوة ، وسرديات الفساد، والمحسوبية، والثراء المفرط . ثقافة الفوضى، تمددت مع وسائل التواصل الاجتماعي حيث يتم تداول المنشورات، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة، وما تنطوى عليه اتهامات بعضها حقيقى، وبعضها مختلق ، وترمى إلى الحط من شأن السلطة ، ومن حولها من رموز أبنية القوة وأجهزتها ، ورجال الأعمال وفسادات بعضهم، أو غالبهم –بحسب كل حالة عربية- أو النيل من سمعة بعضهم، أو انتقادات حادة ذات طبيعة دينية ومذهبية وطائفية وقبلية وعشائرية ،ولبعض من رجال الدين الرسميين الموالين للسلطات المستبدة، والتسلطية.
من بين مكونات ثقافة الفوضى، التشهير بالفساد وأنماطه فى أجهزة الدولة، وسلطاتها وسياساتها، وممارساتها فى الجهاز البيروقراطى للموظفين العموميين، وأيضا فى أنماط التعامل مع الفساد وبه فى سلوك المواطنين مع الموظفين العموميين لتحقيق مصالحهم المشروعة ، أو الخروج على القوانين. من مكونات ثقافة الفوضى اللا مبالاة بالقوانين واللوائح والقرارات الإدارية، من المواطنين والانحراف بها فى تفسيراتها وتأويلاتها، من بعض الموظفين العموميين، أو الصمت على انتهاكات بعض المواطنين لها، وذلك فى مقابل الرشى، والهدايا، والمزايا علي نحو ما ينشرعلي الحياة الرقمية او بعض وسائل الإعلام في بعض الدول العربية .
تعددت أشكال الخروج على الثقافة القانونية الرسمية، واللا وعي القانوني بها، أو بعض الوعي به، وهو مايشكل سمت رئيس لثقافة الفوضى فى غالب المجتمعات العربية. ثقافة الفوضى تهيمن على تفاصيل التفاصيل فى الحياة اليومية، التى باتت معبرة عن اللامبالاة بالنظام.
ثقافة الفوضى مع تسونامي الثورة الرقمية تنتشر من خلال تفاقم هشاشة، ووهن نظم التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة، والمدرسة، والجامعة والمعاهد العليا في دول العسر واليسر العربية .
فى المجتمعات الانقسامية العربية، لا تزال الطوائف تمثل ابرز المحددات فى هوية الطائفة الدينية والمذهبية –المثال الطائفي اللبناني- إلا أن بعض ظواهر التفكك النسبي من الأجيال الجديدة بدأت فى النمو والتمدد والظهور الاجتماعي، وخاصة مع ثقافة الحياة الرقمية، وتبادلات القيم، والآراء والأخبار والسرديات- السطحية، والكاذبة – ، والمنشورات والتغريدات المغلوطة.
هذه التمدد لثقافة الفوضى، واللا نظام بات متسارعاً فى القانون، وكسر التقاليد، وتدهور، وتراجع المنظومات الأخلاقية للأجيال الأكبر سنا، واعترى الأبنية القبلية والعشائرية والمناطقية والعرقية.
من هنا باتت ثقافة الفوضى الرقمية والفعلية مسيطرة على الحياة اليومية، ويؤثر على بعضها بعضا فى ظل الاستبداد السياسى، والتسلطية السياسية، والدينية فى عديد الدول العربية الهشة، ومجتمعاتها المختلفة.
المصدر: الأهرام






