
تزايد الاهتمام بموضوع الليرة السورية خلال الأسابيع والأيام الماضية، حيث استمر انخفاض سعرها في السوق الموازي، وذلك على وقع الأحداث في السويداء والعدوان الإسرائيلي على دمشق، إضافة إلى عودة إطلالة قانون قيصر من جديد، في ظل تأخر الحيازة الكاملة على الموارد النفطية نتيجة تأرجح المفاوضات مع قسد، مروراً بتصريحات حاكم مصرف سورية المركزي بإمكانية تعويمها تعويماً مُداراً غير مرتبط بالدولار الأميركي، وتطبيق زيادة مقدارُها الضعفان في رواتب الموظفين، وأخيراً تَأكُّد طباعة أوراق لليرة سورية جديدة من دون صفرين من القديمة، مما طرح ويطرح مجموعة من الأسئلة عن مستقبل الوضع النقدي والاقتصادي بشكل عام في سوريا خلال الفترة المقبلة، ودور الليرة السورية “الموعودة” في الحياة الاقتصادية، ومدى القدرة على مواجهة استحقاقات تخفيض التضخم، وتحسين الوضع المعيشي للمواطن السوري، إضافة إلى مدى القدرة على تفعيل الجهاز المصرفي في تسهيل المعاملات الجارية والتجارية الداخلية والخارجية، ووضع سياسات فعالة لتحفيز الاستثمار الوطني بالتوازي مع الأجنبي، ولا سيما في قطاعي الزراعة والصناعة، لمواجهة واقع البطالة واستعادة النمو.
وإذا ما بدأنا بتفاصيل المجريات والعوامل التي أثَّرت في سعر صرف الليرة في السوق الموازي خلال الأشهر الماضية، فإن ما يجب البدء به، هو الملاحظة المؤكدة والواضحة المتمثلة بإصرار المصرف المركزي على إبقاء سعر صرف الليرة عند مستوى أحد عشر ألف ليرة للدولار الأميركي الواحد، وذلك على الرغم من الأجواء الإيجابية جداً التي رافقت تتالي تعليق ورفع العقوبات الأميركية والأوروبية وغيرها عن سوريا، ورغم وصوله في السوق الموازية إلى ما دون ثمانية آلاف ليرة للدولار الواحد في فترة سابقة، قبل أن يتصاعد مع التطورات المؤسفة فيما يمكن تسميته بـ” الملف الدرزي”، بدءاً من ريف دمشق في جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا، وبداية التدخل الإسرائيلي المباشر في الشؤون السورية تحت ستار حماية الدروز، وصولاً للأحداث الدامية في السويداء والعدوان الصهيوني على دمشق والقوات السورية الحكومية، وتجديد قانون عقوبات قيصر لعامين، واستمرار تأرجح المفاوضات مع قسد بخصوص تنفيذ اتفاق العاشر من آذار.
الأجواء الاستثمارية مع أطراف إقليمية، ولا سيما مع السعودية وتركيا زاحمت المشاهد الدامية، كما جاءت زيادة الرواتب بمقدار الضعفين لموظفي الدولة في وقتٍ حساسٍ للغاية، حيث شكلت رافداً مهماً لدعم الطلب الفعال في سوق السلع والخدمات، دون شكايات من ارتفاعات في الأسعار،
على غير ما تم اعتياده خلال حكم النظام البائد، مع توقع تأثير تلقائي لهذه الزيادة على مستوى الأسعار، يُرجى أن يكون محدوداً.
فمع استمرار غياب أي إحصاءات رسمية أو موثوقة عن حالة التضخم الاقتصادي في سوريا منذ آذار الماضي “على أساس شهري”، حيث كان شهر شباط شهر انخفاض معدل التضخم السنوي إلى الثلث، إلى جانب انخفاضها على أساس شهري بالمقارنة مع كانون الثاني، إلا أن سلة استهلاك الأسرة ما زالت تعاني، خاصة بالنسبة للأسر التي لا يتوفر لديها تنويع في مصادر الدخل، في حين شكّلت الارتفاعات الكبيرة “المنفلتة” في إيجارات العقارات مشكلة حقيقية للأسر السورية الراغبة في العودة إلى مواطنها من النزوح أو اللجوء، ولا سيما في الحواضر الكبرى في دمشق وحلب، حيث شكل ذلك في إطار “دولرة” قطاع العقارات واستبعاد الليرة السورية عامل ضغط إضافي على سعر صرفها في السوق.
في الوقت نفسه، تغيب أيضاً الدراسات والتقارير الرسمية عن واقع النمو الاقتصادي، وكذلك أي تحليلات موضوعية لمساره المستقبلي، وأثر السياسات الحكومية في ذلك كله. ومع استمرار أزمة السيولة النقدية وحالة عدم اليقين بالنسبة لعمل الجهاز المصرفي سواء العام منه أو الخاص، إضافة إلى غياب خطة واضحة المعالم لدعم استقرار الليرة السورية، ومواجهة الدولرة في المعاملات الجارية بقوة القانون، على الرغم من التشديد المعلن مؤخراً على أعمال مهنة الصرافة، تمتد حالة عدم اليقين لتشمل الاقتصاد الوطني برمته في المستقبل المنظور، خاصةً إذا افترضنا صحة التقارير التي تتحدث عن إحجام كبار رجال الأعمال والمستثمرين السوريين عن العودة لبلادهم، الأمر الذي كان يُعوّل عليه بتحقيق قيمة اقتصادية مؤثرة، عدا المشكلات والعوائق التي يعاني منها الصناعيون السوريون الموجودون فعلاً، نتيجة لاستمرار تدفق السلع المستوردة المنافسة، بما تستنزفه من الدولار، إضافة إلى واقع التصدير الذي ما زال يعاني نتيجة للارتفاع النسبي في تكاليف الطاقة وضعف التوسع الاستثماري الوطني القادر على تحقيق الوفرة الاقتصادية في التكاليف، واستمرار اللجوء للطرق غير الرسمية في تأمين الحركة المالية اللازمة عبر الجهاز المصرفي ونظام سويفت، بانتظار ما سيحدثه التطور المهم الأخير المتمثل بعودة مصرف سورية المركزي إلى نظام سويفت، ووقف الملاحقات الأميركية المتعلقة بحركة الأصول المالية السورية والخاصة به، والذي أقرته وزارة الخزينة الأميركية يوم الإثنين الماضي.
وإذا ما أدخلنا إلى المشهد استمرار غياب خطة اقتصادية معلنة من قبل الحكومة الانتقالية، بل غياب أي مبادئ استراتيجية لخطة اقتصادية انتقالية، واستمرار تصدر الحكومة الانتقالية في عقد الاتفاقات الاستثمارية الأجنبية، بالارتكاز إلى علاقات سياسية مع دول بعينها، وفي ظل مَركزة بارزة لإدارة اقتصاد البلاد في دمشق، فإن صورة سلبية بدأت تلوح في الأفق، بشأن ما تم إعلانه مراراً وتكراراً حول تحرير الاقتصاد الوطني، ومنح الريادة الفعلية للقطاع الخاص غير المرتبط بالتوجهات الحكومية، بمعنى منح القطاع الخاص الفضاء اللازم لعقد شراكات مبنية على أساس المصالح الاقتصادية ودراسات الجدوى والعائدية، ومنح الاستثمار الوطني الأولوية التي يستحقها، وعودة الحكومة للعب دورها الإرشادي والرقابي، وليس دوراً آخر، إذ يشير مراقبون إلى نوع من التوحّد بين السلطة الجديدة وقطاع خاص بها، مرتبط بمجالات ومصالح تجارية وريعية مع الخارج، مما يهدد بترسيخ صورة الاقتصاد الاستهلاكي- الريعي وفرض آليات عمله على واقع الاقتصاد السوري، الذي هو بأمسّ الحاجة إلى استعادة القدرات الإنتاجية الزراعية والصناعية لمواجهة واقع البطالة والدخول في حيّز النمو الاقتصادي المأمول.
وهكذا من السهل أن نجد ضرورة ملحة لاتخاذ إجراءات فعالة لتحسين ظروف الإنتاج والاستثمار الوطني الصناعي، والتركيز على استعادة القدرات الاستراتيجية الزراعية ومنحها الأولوية التي تستحقها، وحل مشكلة الموارد النفطية والزراعية في الجزيرة السورية مع قسد، وإلا فإن المتوقع هو أن يكون موقف الليرة السورية صعباً خلال الفترة المقبلة، بمعنى احتمال تعرض قيمتها السوقية “الاسمية” والحقيقية إلى الانخفاض، في سعر صرفها وقوتها الشرائية أيضاً، الأمر الذي قد يُقوِّضُ الإجراءات المعلنة بخصوص حذف الصفرين ضمن طباعة أوراق نقدية لليرة السورية الجديدة، وبالتالي استمرار مخاوف عودة محتملة لتلك الحلقة المفرغة السابقة: سعر صرف مستمر في انخفاضه وزيادة أسعار ترتكز إلى الدولرة الراسخة في الوعي الاقتصادي السوري، والتي يجب على مصرف سورية المركزي العمل على التخفيف منها بتفعيل أدوات السياسة النقدية التي تُظهر بوضوح رغبة وقدرة منه على دعم الليرة السورية، بصورة سياسة نقدية واضحة الأهداف والوسائل، في ظل مبادئ استراتيجية اقتصادية واضحة على الأقل، يمكن أن تنبثق عنها سياسات اقتصادية استثمارية ومالية ومصرفية شفافة شاملة لجغرافيا البلاد على أساس دعم المنتجات الوطنية، والتركيز على النمو الاقتصادي، وبناء قاعدة واسعة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة، والعادلة، تشمل المجتمعات الأكثر تضرراً من الحرب.
المصدر: تلفزيون سوريا