
أعلنت الأمم المتحدة رسميّاً المجاعة في غزّة في ما وصفتها أزمة مفتعلة “من صنع الانسان بالكامل”، إلا أن التقرير الصادر عن خبراء دوليين في المجاعة لم يقنع الإعلام الغربي بالخروج من منطق الرواية والرواية المضادّة التي غلبت على نقل وقائع الإبادة في غزّة، في حال نقلت تقارير موثّقة لمجازر مروعة يقابلها نفي إسرائيلي تتناقله وسائل الإعلام وكأنه أمر عادي. أن يكذب القاتل، ويسعى إلى التمويه عن جرائمه أمر متوقّع، ولكن أن يُمنح الإعلام التقليدي الواسع الانتشار تصريحات الكذب والتمويه شرعية باعتبارها تعبير عن “الجهة الثانية” للرواية أمر آخر. تخلى الإعلام عن مهمّته الأولى والأساس، وهي التحقّق من المعلومة: إذا قال أحدهم إن السماء تمطر وردَّ آخر أن لا مطر يسقط بتاتاً، هل تنقل ادّعاء الاثنين باعتبارهما حقيقتين متوازيتين، أم تنظر من النافذة لتتأكّد بنفسك مما إذا كانت السماء تمطر أم لا، لتتحقّق من الأمر؟
مقولة بسيطة لكنها معبّرة قالها أستاذ جامعي في انتقاد سذاجة الرواية والرواية المضادّة باعتبارها الوصفة السحرية في قاموس الصحافة الغربية لضمان الاعتدال وحقّ مختلف الأطراف بتمثيلٍ متوازن لمواقفها. هل يصعب بالفعل على الصحافيين ومؤسّساتهم التحقق من أن آلافاً من ضحايا الإبادة مدنيون، وأن الذين على قيد الحياة إلى حينه يعيشون ظروفاً من النزوح والتشرّد والجوع غير موصوفة أو مسبوقة؟ ألا تكفي مئات الصور والوثائق عن أطفالٍ يموتون جوعاً ومدنيين يتم قنصُهم وهم يتضوّرون جوعاً في انتظار الحصول على بعض الغذاء، وهم، في معظم الحالات، يقتلون من باب التسلية المجّانية للجنود؟ ألا يكفي سيل هذه الوثائق ليؤكّد للإعلام أن حملات الدعاية الإسرائيلية لا يمكن اعتبارها “وجهة نظر”، بل تعمية للحقيقة.
المؤسف أن الإعلام الإسرائيلي المعارض للحرب وحده بادر إلى التحقق من الوقائع التي تحاول حكومته التعمية عنها
ليست المشكلة، إذن، في عدم وجود أدلةٍ كافيةٍ للإعلام الذي لم يتحدَّ المنع الإسرائيلي بالدخول إلى غزّة، ليتحقّق من وقائع ما زال يقدمها بوصفها نزاعاً بين طرفين. المؤسف أن الإعلام الإسرائيلي المعارض للحرب وحده بادر إلى التحقق من الوقائع التي تحاول حكومته التعمية عنها. كشف تحقيق مشترك للموقع الإسرائيلي + 972، والموقّع باللغة العبرية “لوكال كول” وصحيفة الغارديان البريطانية أن 83% من ضحايا حرب الإبادة في غزّة مدنيون، وذلك بناء على قاعدة بيانات سرّية لدى الجيش الإسرائيلي. أظهرت هذه الأرقام التي حصل عليها الصحافيون أن 8900 مقاتل قتلوا أو ربما قتلوا حتى تاريخ شهر مايو/ أيار من العام الجاري (2025)، أي بعد 19 شهراً من اندلاع الحرب، بينما يقترب إجمالي عدد الشهداء إلى 61 ألف ضحية في حرب الإبادة حتى تاريخه. بحسب الأرقام نفسها، فإن خمسة من كل ستة فلسطينيين قتلوا في العمليات العسكرية هم من المدنيين، وهو معدّل لقتل المدنيين يفوق كل ما شهدته الحروب الحديثة. في حين يواصل الإعلام نشر التضليل الإسرائيلي عن عدم وجود مجاعة في غزّة، ومناقشته في حلقات “التوك شو” باعتباره وجهة نظر، حملت صحيفة هآرتس الإسرائيلية على عاتقها أن تردّ على النفي الإسرائيلي عبر تحقيق أجرى جولات افتراضية في مستشفيات غزّة لتوثيق المجاعة وحالات سوء التغذية الشديدة لدى الأطفال. يقول التحقيق، وعنوانه “المجاعة في كل مكان”، إن الجولات التي نظّمت بالتعاون مع أطباء في المستشفيات نقلت مشاهد كارِثية صادمة. قال التحقيق الذي صوّر عبر الفيديو جولاتٍ للأطباء على أسرّة الأطفال في المستشفيات: “رأينا أطفالاً أجسادهم منهكة من الجوع، وعظامهم بارزة. اصفرَّ شعرُهم أو تساقط، ووجوههم متجعّدة وبطونهم منتفخة. كانت أجسادهم مترهّلة، وعلامات على جلود كثيرين منهم. بدا بعضُهم في حالة من الغياب التام”. توصل التحقيق إلى ما سمّاها “حقيقة بسيطة”، أن “أي شخصٍ يدّعي أن صور المجاعة في قطاع غزّة هي نتيجة أمراض وراثية حادّة أو أمراض أخرى، وليس بسبب النقص الحاد في الغذاء، يكذب على نفسه”، في إشارة إلى الدعاية الإسرائيلية المنتشرة في الإعلامين التقليدي والجديد، وفحواها أن الأطفال يعانون من أمراض وراثية لا علاقة لها بالمجاعة.
نقل الإعلام خبر قتل خمسة صحافيين، إلى جانب 20 مدنياً، وكأنه أمرٌ عاديٌّ في سياق الرواية والرواية المضادّة، بما في ذلك “الأسف” الإسرائيلي بوصفه وجهة نظر
لا يحتاج الإعلام لمزيدٍ من الأدلة للخروج عن الخطاب الخشبي البارد بحجّة التوازن بين طرفين: الأول آلة قتل وتجويع سادية، والثاني مجموعة بشرية غالبيتها العظمى من المدنيين يموتون قتلاً أو تجويعاً. أي صحافي يروج التضليل الإسرائيلي أو يناقشه بوصفه وجهة نظر يساهم، بشكل أو بآخر، في تعميق عملية الامحاء التي يتعرّض لها المدنيون في غزّة. هل هو الخوف من الطرد أو التعرّض لملاحقات تأديبية باتت عادية في معاقبة تعبيرات معارضة الإبادة؟ أو أنه الالتزام بالخط التحريري الذي يرى الحرب على غزّة مجرّد نزاع آخر؟ خرجت إلى العلن أخيراً أخبار عن مشادّات داخلية بين مجموعات من الصحافيين وإداراتهم حول تغطية غزّة، إلا أنها بقيت هامشية، ولا يمكن أن توصف بأنها حراك أو “انتفاضة” داخلية لصحافيين ضد التعمية الإعلامية على الإبادة. ما وراء هذه المبالاة هو الكسل المهني، والكسل الإنساني قبله، لدى مجموعة صحافية باتت مهووسةً بالحفاظ على امتيازاتها باعتبارها نخبوية، قليلة الاهتمام بعالم “الآخرين”، حيث الموتُ مسألة متوقّعة لمن هم مجرّد “أضرار جانبية” للحروب والأزمات.
قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فلاتشر، تعليقاً على إعلان منظمة شراكة تصنيف الأمن الغذائي المرحلي المجاعة في غزّة، إنها مجاعة “سببتها الوحشية، وساعدتها اللامبالاة واستمرّت بفعل التواطؤ”. لربما كان عليه أن يضيف أنها مجاعة تدور في ساحة إبادة ساهم في استمرارها رفض الإعلام أن يرى وعجزه أو عدم رغبته في الغضب. في حين أكتب هذه الكلمات، قتلت إسرائيل، في ما يبدو، وكأنه عملية إعدام على الهواء مباشرة، خمسة صحافيين ومصوّرين صحافيين، هم حسام المصري (رويترز)، ومحمد سلامة (الجزيرة)، ومريم أبو دقة وأحمد أبو عزيز ومعاذ أبو طه. نقل الإعلام خبر قتل الصحافيين، إلى جانب 20 مدنياً، وكأنه أمرٌ عاديٌّ في سياق الرواية والرواية المضادّة، بما في ذلك “الأسف” الإسرائيلي بوصفه وجهة نظر، بانتظار مجازر إسرائيلية جديدة.
المصدر: العربي الجديد