
تدرّس المفكرة النسوية جوديث باتلر الأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا بيركلي الأميركية، باحثة متميّزة زائرة. أدرجتها إدارة الجامعة بين 160 عضواً في الهيئة التعليمية وطالباً وموظّفاً جامعياً، بلّغوا أن أسماءهم أرسلت إلى مكتب الحقوق المدنية التابع لوزارة التعليم، من دون توضيح طبيعة الاتهامات ضدّهم. والتدبير جزء من تحقيق فيدرالي يستهدف التحرّي عمّا سمّيت “حوادث مزعومة معادية للسامية”. ليس الحادث مسألةً عابرةً، بل مشهداً أميركياً مكرّراً في الحرب على الكلمة في أميركا، كما عنون مقال في مجلة نيويوركر. وكتبت باتلر أن فرانز كافكا حلّ أخيراً في تلك الجامعة، ففي رسالتها إلى إدارة الجامعة (نشرها موقع ذي نيشن)، تستعيد باتلر المشهد من رواية كافكا الشهيرة “المحاكمة” حين يستيقظ الموظف “كاف” ليجد رجلين يدّعيان تمثيل القانون، يبلغانه بوجود اتهام ضدّه، لكنه لا يعلم التهمة، ولا يبدو أن الرجلين يعرفانها. مع ذلك يتحضّر الموظف “كاف” للمثول أمام المحكمة. ينتظر محاكمة عادلة، إلا أنه يوقن أخيراً أن انتظار المحاكمة العادلة هو المحاكمة في حدّ ذاتها.
تقول باتلر، في ردّها على قرار الجامعة إحالتها على تحقيق بتهم مبهمة غير معلنة: “هناك جانبان بارزان في هذا البيان لكل من قرأ أعمال كافكا. الأول أنكم تُلمِّحون، من دون أن تُصرّحوا بذلك، إلى أنني متّهمة بمعاداة السامية أو أن اسمي مرتبط بحادثة من هذا النوع. لكنكم في الواقع حريصون، إذ تقولون إن حادثة التمييز المعادي للسامية (مزعومة)، ما يعني ببساطة أن الادّعاء لم يُراجع ولم يُبتّ فيه، بل تُرك قائماً بذاته”، بمعنى أنها تهمة لا حاجة لإثباتها أو دحضها، مجرّد تهمة تحرم المتهم من حقّه في العدالة الكاملة، وتلزمه الصمت خوفاً من السيف المعلّق فوق رأسه.
في زمن ترامب، الحرية الأكاديمية تترنّح، والجامعة لم تعد ملاذاً للفكر الحرّ
ليست باتلر وحدها في هذا الموقع، فالحرب على التعبيرات الخارجة عن التيّار باتت وجهاً عادياً للحياة اليومية في الولايات المتحدة بشكل خاص، وفي أوروبا بدرجة أقلّ. التهمة جاهزة لا حاجة لإثباتها، لأن المطلوب ليس العدالة، إنما الإسكات. يشنّ ترامب وإدارته حملةً شرسةً على حرية التعبير، وهو الذي ادّعى في شعارات حملته الانتخابية تحرير الأميركيين من أشكال الرقابة على حرية التعبير التي تفرضها ثقافة إلغاء الآخر اليسارية الراديكالية، على حدّ زعمه. بدأ ترامب من الإعلام، وانتهى بالجامعات، وكلاهما من بين مراكز أساسية لليسار الليبرالي الذي يعمد ترامب وإدارته إلى شيطنته، من ذلك منع وكالة أسوشييتد برس من حضور المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض، ومقاضاة صحيفتَي وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز بتهمة التشهير، وقد وصف الأخيرة بأنها “من أسوأ الصحف وأكثرها انحطاطاً في تاريخ بلادنا”. وتقاضى 16 مليون دولار من شبكة سي بي إس بسبب ما اعتبره تحريفاً في مقابلة له، وتفكيك إذاعة صوت أميركا بتهمة أن الإعلام العمومي الأميركي راديكالي. جديد هذه الحلقات أخيراً تعليق برنامج جيمي كيميل المسائي بسبب ضغوط حكومية، بحجّة أن الكوميدي تجاوز الحدّ الفاصل بين السخرية وما يعتبر “خطاب الكراهية”، لإشارته إلى محاولة ترامب (وحركته السياسية) استغلال مقتل الناشط اليميني المتطرّف تشارلي كيرك أخيراً خلال مناسبة في حرم جامعي. عاد البرنامج بعد تعليقه فترةً وجيزةً، إلا أن قرار تعليق برنامج بسبب تعبيرات ناقدة سابقة أكثر من خطيرة في الولايات المتحدة.
بات التعبير في الإعلام أو في الحرم الجامعي مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، بانتظار أن يستعيد الغرب وعيه.
أظهرت الضغوط على الجامعات أن إداراتها عاجزة عن حماية الحرية الأكاديمية التي لطالما اعتبرت الميزة الأساسية للبيئات الجامعية في الغرب، وهي شرط أساس لوقوع فعل التعليم. قمع الحراك الطلابي من أجل فلسطين في جامعة كولومبيا رافقته مئات التوقيفات وسحب التأشيرات والطرد بحقّ طلّاب شاركوا في نشاطات طلّابية، أو حتى عبّروا فقط عن آراء في وسائط التواصل الاجتماعي. يتحدّث تقرير “نيويوركر” عمّا يسمّيه “قلق التعبير” في حرم الجامعات: الطلاب يخشون التعبير عن آراء قد تنفّر زملاءهم أو قد تتسبّب في إثارة غضب المدرّسين، كما يخشى الأساتذة الجامعيون من التطرّق إلى موضوعات تعتبر حسّاسةً أو قد تؤدّي إلى شكاوى من الطلّاب، تقبلها إدارات الجامعات، وتنتهي غالباً باتخاذ إجراءاتٍ عقابيةٍ بحقّ الأساتذة الجامعيين. لا معلومات كافية حول ما يحصل في أقسام جامعية وضعت تحت المراقبة بشكل خاص، منها الدراسات الشرق أوسطية. في جامعة كولومبيا، قرّر أستاذ الدراسات العربية الحديثة وشاغل كرسي إدوارد سعيد في قسم التاريخ رشيد الخالدي ترك الجامعة، إذ كان من المفترض أن يقدّم مقرّراً حول تاريخ الشرق الأوسط الحديث، بسبب خضوع الجامعة لشروط ترامب، بما في ذلك تبنّي التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست تعريفاً يعتبر أيّ انتقاد لإسرائيل، أو للسياسات الإسرائيلية، من أشكال معاداة السامية. في تصريحات سابقة أدلى بها الخالدي لمجلة نيويوركر (2008)، قال تعليقاً على اعتراضاتٍ بأن تدريسه يثير القلق لدى الطلّاب اليهود: “بالتأكيد، راحة هؤلاء الأطفال اليهود أمرٌ مهم. وبعضهم لديه شكاوى حقيقية. لكن التعليم يقوم على تبادل الأفكار، على جدال حول الأفكار، ولا يُمكنك الجدال حول الأفكار إذا كنت تتمتع بـ(راحة) روضة أطفال”. في هذه الأجواء، لم يعد فعل التعليم، باعتباره تبادلاً للحجج والآراء، في “سوق الأفكار” الليبرالي ممكناً.
بالعودة إلى رسالة باتلر إلى إدارة جامعتها، وتوصيفها الأجواء الجامعية الكافكاوية التي تعيشها، قد يصح القول إننا بتنا جميعاً أشبه بالموظّف “كاف”، نُحاكَم أو ننتظر محاكمتنا لأسباب غير معلومة. المهم أن الأخ الأكبر يراقبنا، لا لحجّة واضحة أو مخاوف حقيقية، بل لمجرّد أننا في موقع الموظّف “كاف”. في هذه الأجواء، بات التعبير في الإعلام أو في الحرم الجامعي مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، بانتظار أن يستعيد الغرب وعيه.
المصدر: العربي الجديد



