
الاستشراق ظاهرة فكرية اجتماعية ثقافية وسياسية ولها ابعاد دينية وايديولوجية واقتصادية، ومنذ نشوء الاستشراق ركز على الدين الاسلامي وتفسيراته المختلفة وكثير منه مشوه للقارئ الاوروبي والغربي، ونتج عن ذلك حروب دينية وغربية ضد المشرق العربي والاسلامي. وخاصة منذ القرن السادس عشر وبرز بشكل واضح في القرن الثامن والتاسع عشر. ولم يقتصر الاستشراق على خدمة الاهداف الاستعمارية لبلدان الشرق بل برز مستشرقون عظماء أنصفوا الحضارة العربية الاسلامية ودافعوا عن انجازاتها التي ساهمت في تقدم البشرية وخاصة الاوروبية منها. ولكن منذ 1972 تقريبا اقتنع المستشرقون بأن مصطلح الاستشراق قد استهلك وان ظاهرة الاستشراق اصطدمت بعقبات كبيرة وازمة حقيقية تحدث عنها لأول مرة المفكر المصري الكبير انور عبد الملك (ت 2012)، الكبير الذي فضح اسس الاستشراق وبين انه يعيش أزمة حقيقية (1961) بسبب انكشاف اهدافه الحقيقية غير النزيهة وبسبب تخلفت ادواته المعرفية والتي تحتاج لمناهج العلوم الحديثة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والدين والفكر.
وبعد أنور عبد الملك ظهر المفكر الامريكي الفلسطيني المعروف ادوارد سعيد (ت 2003) الذي شرح الاستشراق وبشكل حاد وقوي في كتابه “الاستشراق” (1978) الذي أحدث ضجة كبيرة في اوساط المفكرين والجامعات الغربية والعالمية. وأبرز سعيد أن الاستشراق ينظر الى الشعوب العربية والاسلامية والمشرقية بتعالي وفوقية وتمييز وباعتبار تلك الشعوب بحاجة لمن يقودها ويدير شؤونها من الخارج اي يبرر الاستعمار. وفي مؤتمر المستشرقين عام 1972 تم اتخاذ قرار بالتخلي عن مصطلح الاستشراق واستخدام مصطلح “الدراسات الاسيوية والافريقية” او “دراسة المناطق” وهذا بالضبط أصبح موضوع ابحاث المراكز البحثية الغربية التي تختص بالشرق الأوسط للإشارة إلى تغير مفهوم الاستشراق والمشرق بشكل عام، وأصبح يستخدم مصطلح “الاستشراق الجديد”.
لكن مصطلح الاستشراق الجديد او الاستشراق المعاصر او دراسة المناطق وغيره من المصطلحات حق يراد به باطل. فجوهر ومضمون هذه الدراسات هو الاستشراق التقليدي بأساليب ومنهجية جديدة ومصطلحات جديدة. لكن في حقيقة الأمر فإن الدراسات الاستشراقية الحديثة التي تجرى في مراكز أبحاث الشرق الأوسط ومراكز وشنطن للأبحاث ومؤسسة راند وغيرها العديد تهتم بدراسة بلدان الشرق وشعوبها وتاريخها وثقافاتها وسياسات الأنظمة الحاكمة لكي تقدم استشارات تحليلية للحكومات الغربية وللشركات الغربية الكبرى النفطية وشركات الأسلحة والشركات المالية (منها شركات روكفلر وغيرها)، حيث تحصل تلك المراكز على تمويل من هذه المؤسسات الحكومية والخاصة.
ويبقى جوهر هذه الأبحاث ومواضيع المراكز هو الصراع الفكري الحضاري الذي بدأه الغرب ضد الشرق منذ أكثر من ألف سنة، ولكن صراع الحضارات ليس مطلبا او حاجة إنسانية بل هو لخدمة أغراض سياسية واقتصادية وجيوسياسية ودينية.
ولا حل إلا بالحوار بين الحضارات والاعتراف بالآخر والمساواة بين الشعوب الصغيرة والكبيرة المتقدمة والمتأخرة والتعايش والتعاون والتكامل وإلا ستبقى الحروب والصراعات المدمرة عنوان المشهد.
وكلمة أخيرة لا بد منها:
يقال ان الصراع بين الغرب المسيحية والمشرق الإسلامي، ولكن المسيحية ليست دينا غربيا بل هي ولدت في قلب المشرق والمسيحيون المشرقيون أقرب للمسلمين من المسيحيين الغربيين. مما يؤكد ان جوهر الصراع ليس دينيا وانما يستخدم الدين كغطاء مثلما تستخدم الطائفية للصراعات والخلفية لكل ذلك هي البحث عن الثروات والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية.
كما أن جوهر الإسلام ليس اقصائي وليس عدواني وانما يدعوا بالتي هي أحسن، وكذلك لا اكراه في الدين ولا فرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى وكذلك يحرم قتل النفس البريئة.
والحضارة العربية الإسلامية قدمت للبشرية ولأوروبا الغربية بوجه خاص عوامل مهمة للنهضة الحضارية والتقدم العلمي على مدى قرون طويلة. ولا بد من الاشارة الى المؤتمر الدولي الناجد حول الاستشراق الذي عقد في الدوحة باشراف وزارة التربية والتعليم العالي في دولة قطر في ابريل الماضي والذي شارك فيه 130 مستعربا وباحثا من خمسين دولة وكان تظاهرة علمية واكاديمية وفكرية كبيرة.
موسكو- 26 أغسطس/آب 2025
المصدر: صفحة الدكتور محمود الحمزة
الاستشراق ظاهرة فكرية اجتماعية ثقافية وسياسية، لها ابعاد دينية وايديولوجية واقتصادية، ركز ببدايته على الدين الاسلامي وتفسيراته المختلفة وكثير منه مشوه للقارئ الاوروبي والغربي، الحضارة العربية الإسلامية قدمت للبشرية ولأوروبا الغربية بوجه خاص عوامل مهمة للنهضة الحضارية والتقدم العلمي على مدى قرون طويلة، قراءة موضوعية دقيقة.