الإخوان المسلمون أمام السؤال الوجودي

محمد أبو رمان

                                                                                     

يحمل مقال أحمد موفق زيدان “متى ستحلّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟” (“الجزيرة نت”، 22/8/2025)، رسائل ودلالات سياسية داخلية (سورية) وخارجية، ليس لمضمون المقال نفسه فقط، بل أيضاً لكاتبه، بصفته مستشاراً إعلامياً لدى الرئيس السوري أحمد الشرع، أي أنّه يعكس مزاج السلطة السياسية الجديدة ونياتها تجاه الجماعة، ولا يصدر مقاله من فراغ أو دافعٍ شخصي أو فكري بصورة عفوية، فالموقع نفسه يشي بالدلالات، ثم إنّ زيدان أيضاً من أبناء الجماعة المحسوبين تاريخياً عليها، ومن أوساطها الاجتماعية والسياسية. … علّل الكاتب، وهو إعلامي معروف، دعوته الجماعة لحلّ نفسها بأسباب عدة، منها ما يتعلّق بالفجوة الجيلية والابتعاد الزمني الكبير بينها وبين المجتمع السوري، منذ الثمانينيّات، ومنها ما يتعلّق بطبيعة المرحلة أو اللحظة الانتقالية الحالية، التي تتطلّب وقوف الجميع مع الحكم الجديد، الذي حقّق “الانتصار” على حكم الأسد الدموي، بخاصة أنّ قوى سياسية وإسلامية أخرى حلّت نفسها والتزمت الوقوف مع “الدولة” في إعادة البناء والإعمار.
المسكوت عنه في مقالة زيدان، وربّما هو ما يُحدث فجوات واسعة في فهم النصّ، لأنّه لم يتطرق إليه سابقاً، أنّ هنالك أسباباً داخلية وخارجية أكثر قوة وراء دعوته الجماعة إلى حلّ نفسها، وتتمثّل في أنّ أحد الشروط الرئيسة غير المُعلَنة في تطبيع علاقة النظام الجديد بالدول العربية منع نشاط الجماعة وعدم السماح لها بالانطلاق من جديد من الأراضي السورية، حتى لا تكون سورية بمثابة “قبلة الحياة” للإسلام السياسي، كما قال لكاتب هذه السطور دبلوماسي عربي. وما لم يقله النصّ، إذاً، أنّ مصلحة سورية الجديدة وبناء الدولة والخروج من الوضع الخطير الحالي، الذي يهدّد وحدتها وقدرة النظام الجديد على مواجهة التحديات والأخطار الكبيرة، كل ذلك يتمثّل بعدم السماح بنشاط الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي يدفع الجماعة (وفقاً لهذه النظرية) لتقديم المصلحة الوطنية على المصالح التنظيمية والجزئية. يعزّز هذه الفكرة أنّ جماعة الإخوان المسلمين في سورية نفسها حلّت نفسها طواعيةً في مرحلة الوحدة السورية المصرية، عندما اشترط جمال عبد الناصر للوحدة أن تحلّ الأحزاب السياسية السورية، بمعنى أنّ الوحدة والمصلحة الوطنية هما ما تغلّبتا في حسابات قادة التنظيم حينها على الاعتبارات التنظيمية والسياسية الحزبية.

الحديث ليس عن المظلومية بل عن حركة نقد فكري وسياسي حقيقية من “الإخوان” تقرأ المتغيّرات وتنظر إلى الجماعة من منظور السياقات والمراحل التاريخية

المسكوت عنه في النصّ أيضاً أنّ الرئيس السوري نفسه لا يحمل تصوّرات جيّدة عن جماعة الإخوان المسلمين، وقد أسرّ بذلك لسياسيين ودبلوماسيين عرب التقاهم، وربّما يكون ذلك من إرث المرحلة السابقة في حياته، إذ لا تتسم العلاقة بين السلفية الجهادية و”الإخوان” بالنيات الطيبة ولا بالثقة، فهنالك شكوك كبيرة وتنافس، وربّما صراع في أحيانٍ كثيرة، لذلك التقى النزوع الشخصي لديه بالسياسات الإقليمية في الموقف السلبي من “الإخوان”، ومنع عودة نشاطهم إلى الساحة السورية بعد سقوط نظام الأسد. وقد تطرّق مقال سابق لصاحب هذه السطور “الإخوان والشرع… هدوء تكتيكي أم صدام مؤجّل” (“العربي الجديد”، 25/5/2025) إلى السياقات والخلافات غير المُعلَنة بين الحكم الجديد وجماعة الإخوان، ويأتي مقال زيدان ليؤكّد ما جاء في ذلك المقال، ويعيد طرح مجموعة من الأسئلة والتساؤلات، بخاصّة بشأن مستقبل الجماعة ومصيرها في المرحلة المقبلة، بعدما أصبحت في أغلب الدول العربية (إلا باستثناءات محدودة جدّاً) محظورةً، وممنوعة من ممارسة العمل والنشاطيَن السياسي والحزبي، سواء كان قادتها في السجون والمعتقلات والنفي، أم كانت الجماعة محظورةً قانوناً ولا تستطيع ممارسة النشاط.
أشاد زيدان بتجارب تاريخية حلّت فيها الجماعة نفسها، أو تخلّت عن اسمها واتخذت عناوينَ جديدة، كما حدث مع راشد الغنّوشي وحسن الترابي، وفي قطر، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، ويؤشّر (ضمنياً) إلى أنّ هذا يريح الجماعة من عبء ما يسمّى التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، الذي تتحدّث عنه الأجهزة الأمنية العربية والحكومات بوصفه بعبعاً ومنظّمةً عالميةً خطيرةً تدير جماعات الإخوان المسلمين في العالم، ما يُنتج أوهاماً كبيرة عن الجماعة وقدراتها، “بينما حقيقتهم وواقعهم يُرثى له، فالمساكين متمسّكون بقصور خيالية وهمية سرابية”، وفقاً لما يقوله زيدان في خاتمة مقاله.
إذا تجاوزنا مقالة زيدان إلى الحالة العامّة لجماعة الإخوان المسلمين في العالم اليوم، نجد أنّها تمرّ في مرحلة ولحظة تاريخية غير مسبوقتَين، تشكّلان تحدّياً كبيراً ووجودياً لها بمعنى الكلمة، فبالرغم من أنّ الجماعة تعرّضت تاريخياً للمحنة القاسية وجلب أبناؤها إلى أعواد المشانق والقتل والذبح والسجن عقوداً طويلة، في مصر وسورية نفسها والعراق ودول عديدة أخرى، إلاّ أنّ السياسات الإقليمية والدولية أيضاً منحت أبناء الجماعة القدرة على إيجاد أماكن آمنة والاستفادة من توازنات القوى، والتمسّك بالأيديولوجيا الإسلامية وبمخالب التنظيم، أمّا اليوم فالدول الأخرى التي دعمت الجماعة تاريخياً انقلبت عليها، وأصبحت البيئة الإقليمية، إلا استثناءات محدودة، تعمل ضدّ الجماعة، وأصبحت عملية “إعدامها” تتجاوز حدود هذه الدولة أو تلك، لتبدو كأنّها سياسة دولية وإقليمية في الوقت نفسه.
لم تبقَ إلا مساحات محدودة لعمل الجماعة، وهي مهدّدة بالإغلاق أو الاضمحلال، ومن الواضح أنّ الحال بعد “الربيع العربي” يتدحرج نحو الأسوأ، حتى النظام الجديد في سورية، ذو الخلفية الإسلامية، الذي كان يُعوّل عليه (شيوخ الجماعة وقادتها) أن يشكّل بدايةً جديدةً لنشاط الجماعة، التي دفعت ثمناً باهظاً في الصراع مع نظام الأسد، يسير، كما يبدو، في ركاب الحكومات العربية، ويرسل الرسائل تلو الأخرى إلى الجماعة بعدم الرغبة بأن تكون موجودةً رسمياً في المشهد السياسي في الدولة. حتى حزب الوعد، الذي يمثّل جناحاً سياسياً أو قريباً من الجماعة، ترفض السلطات الجديدة السماح له بالعمل، وهو أمر يُبرَّر بأن قانون الأحزاب لم يقرّ بعد، لكنه يخفي موقفاً سلبياً من الجماعة. يمكن أن يُضاف إلى ذلك كلّه حظر جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، التي طالما كانت حاضنةً للجماعة، بل والأزمة غير المسبوقة بين الدولة والجماعة، وقد احتضن الأردن تاريخياً الهاربين من قادة الجماعة وأبنائها من أعواد المشانق والسجون في سورية، ما يؤشّر بوضوح إلى أن هنالك تحوّلاً كبيراً في البيئات السياسية الداخلية والخارجية المحيطة بالجماعة.
يوازي هذا وذاك أنّ هنالك أيضاً انشقاقات غير مسبوقة في الأوساط القيادية في الجماعة الأمّ في مصر، بين التيارات السياسية التي تشكّل قيادة الجماعة، وتمثّل مراكز القوى في التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهي، بالضرورة، مرحلة حادّة ودقيقة لم يسبق للجماعة أنّ مرّت بها منذ تأسيسها، ما يطرح سؤالاً جدّياً على قادتها في مختلف المجتمعات والدول حول التعامل مع المرحلة الجديدة، الواضح أنّها ليست غمامة صيف عابرة، وليست منعرجاً أمنياً أو مؤقّتاً تتعرّض له الجماعة كما تعرّضت له في مراحل سابقة. بل يمكن أن يضاف إلى هذا وذاك متغيّر آخر مهم، أن الحركة في المغرب العربي (المغرب وتونس والجزائر) تحديداً، لم تخسر أمنياً ولا عسكرياً، بل خسرت سياسياً وعبر صناديق الاقتراع بعد أداء سياسي ضعيف.

أحد الشروط غير المعلنة لتطبيع علاقة النظام السوري الجديد بالدول العربية هو منع نشاط “الإخوان المسلمين

ليس الحديث هنا عن الحقّ والباطل، ولا عن المظلومية والضغوط والهجوم على الجماعة، ولا عن استدعاء الخزّان الفكري والعاطفي لدى أبنائها عن الحرب والمؤامرة على الإسلام وعلى الحركات الإسلامية وعن ثبات الحقّ وصموده في مواجهة الآخر، ليس الهدف مناقشة أفكار “الإخوان”، إنما السياقات السياسية والتاريخية الراهنة والمصالح الاستراتيجية وموازين القوى ومصلحة الدول والمجتمعات، وأخيراً فيما إذا كانت هنالك حركة نقد فكري وسياسي حقيقية لدى أبناء الحركة وقادتها تقرأ هذه المتغيّرات وتنظر في الجماعة ووجودها ودورها، لا من منظور التقديس والتعظيم والإرث التاريخي فقط، بل من منظور السياقات والمراحل التاريخية أيضاً؟
ثمّة متغيّرات تنظيمية وفكرية واجتماعية وسياسية وثقافية تستدعي اليوم من المفكّرين والمثقّفين والقيادات في جماعة الإخوان المسلمين التفكير فيها مليّاً في تأطير استراتيجية هذا الاتجاه السياسي المهم في العالم العربي، والخيارات المتاحة أمامه والتفريق بين مصلحة التنظيم من حيث هو تنظيم عابر للدول والمجتمعات، ويتجاوز المعنى التقليدي للحزب السياسي من جهة، والمصالح الوطنية والسياسية من جهةٍ أخرى، وفي أبناء التنظيم أيضاً الذين يدفعون أثماناً باهظة في دولٍ كثيرة لانتمائهم إلى الجماعة، ليس من باب التخلّي عن المبادئ والفِكَر والأهداف، لكن من باب المصالح والمفاسد المرتبطة ببقاء التنظيم أم لا؛ وهي ليست دعوة مبطّنة إلى حلّ الجماعة؛ وإنما للتفكير النقدي والواقعي والسياسي، بخاصّة أن هنالك مفكّرين ومثقّفين وسياسيين، من المؤيدين تاريخياً أو المتعاطفين أو المستقلين سابقاً، أطلقوا مثل هذه الدعوات، مثل محمد سليم العوا. وفي الأردن، لم يُكتب لوثيقة تاريخية مهمّة الاهتمام اللازم، كتبها قبل وفاتهما عبد اللطيف عربيات وعبد الحميد القضاة، وهما من قيادات الجماعة المعروفين، وجّهاها إلى مكتب الإرشاد العالمي يدعوان فيها إلى مراجعة مدى جدوى بقاء الجماعة بصيغتها التنظيمية والهيراركية (الهرمية) القائمة.
ألا يمكن أن تقوم الجماعة من جديد؟… نعم، ممكن جداً، فالظروف السياسية عربياً متغيّرة، وربّما ما تمتلكه الجماعة اليوم من أفراد وقدرات وطاقات على مستوى العالم كبير جداً، ولديهم مصادر قوة غير تقليدية، وهذا صحيح. لكن السؤال هو في جدوى بقاء الجماعة جماعةً، ومدى صلاحية الأيديولوجيا التي قامت عليها، وفيما إذا كانت أنجزت المهمّة التاريخية التي قامت من أجلها، وانتهت المهمّة، وسؤال الكلفة والمصلحة من منظور فقهي وسياسي… وأكثر أهميةً من هذا وذاك إمكانية التخلّي عن رداءٍ ليس مقدّساً، والعمل بصيغة وخطاب وفِكَر جديدة، أكثر قدرة على مواجهة الواقع الحالي والتحوّلات الجوهرية في الظروف… هي مجرّد تساؤلات وأسئلة وفِكَر للنقاش والتداول.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى