تركيا كحليف ظرفي وإسرائيل كيان محتل: قراءة في جدلية المقارنة

علي بكر الحسيني

منذ إندلاع الثورة السورية عام 2011، دخلت البلاد مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، حيث تشابكت فيها حسابات الداخل مع رهانات الخارج، وتصارعت على أرضها مشاريع إقليمية ودولية متناقضة. في خضمّ هذه الأزمة، تعددت المقارنات والتحليلات، وبرزت جدلية شديدة الحساسية: هل يمكن مساواة الدور التركي في سوريا بالدور الإسرائيلي؟
هذا الطرح الذي يتردّد أحياناً بوعي وأحياناً أخرى عن جهل، يقوم على خلط خطير بين دولة جارة ذات مصالح أمنية وسياسية محدودة، وبين كيان إستعماري إستيطاني توسعي قائم على الإقتلاع والعدوان المستمر. إن مثل هذا الخلط لا يعكس فقط ضعفاً في التحليل، بل يشكّل في كثير من الأحيان غطاءً لتبرير الإنزلاقات التطبيعية أو التواطؤ مع مشاريع الاحتلال.
في هذا المقال سأحاول أن أقدّم مقاربة شاملة لتفكيك هذه الجدلية، عبر محاور سبعة رئيسية:
1-التدخل التركي وسياقاته الأمنية والإنسانية.
2-المشروع الإسرائيلي الإستعماري الإستيطاني.
3-المشروع الإيراني الطائفي التوسعي.
4-البعد الوطني في رفض التطبيع.
5-قضية لواء إسكندرون وأطماع العثمانية
6-التحديات الداخلية – خطاب حكمت الهجري نموذجاً.
7-الدلالات السياسية للخلط بين تركيا وإسرائيل.
أولاً: التدخل التركي – بين الضرورة الأمنية والمبادرة الإنسانية
منذ اللحظة الأولى للثورة السورية، وجدت تركيا نفسها أمام إستحقاق جغرافي لا يمكن تجاوزه. فهي دولة جارة تشترك مع سوريا بحدود تتجاوز 900 كيلومتر، ما جعلها معنية مباشرة بتطورات المشهد السوري.
1-البعد الإنساني: إستقبلت تركيا أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري، لتصبح أكبر بلد مضيف للاجئين في العالم. هذا الدور – رغم ما حمله من أعباء على الداخل التركي – وفّر ملاذاً آمناً لملايين السوريين في وقت أوصدت فيه معظم الدول العربية أبوابها.
2-البعد السياسي: إحتضنت أنقرة المعارضة السورية سياسيّاً، ووفرت لها منصات دبلوماسية للتواصل مع المجتمع الدولي، ما ساعد على بقاء صوت الثورة حاضراً في المحافل الدولية.
3-البعد الأمني والعسكري: تدخل تركيا عسكرياً في شمال سوريا عبر عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، بدافع حماية أمنها القومي من تهديدات حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب. ورغم الإنتقادات، فإن هذه العمليات لم تُترجم إلى مشروع ضم أو إستيطان.
4-البعد التفاوضي: لعبت تركيا دوراً محورياً في مسار أستانا وسوتشي، وأسهمت في إنشاء مناطق “خفض التصعيد”، التي ساعدت نسبياً في تقليص وتيرة القصف وحماية آلاف المدنيين.
تركيا إذن ليست “ملاكاً سياسياً”، لكنها أيضاً ليست مشروع إحتلال إستيطاني. تدخلها إرتبط باعتبارات جغرافية وأمنية وسياسية، ولم يُعلن يوماً عن إلغاء سوريا كدولة أو إقتلاع شعبها من أرضه.
ثانياً: الدور الإسرائيلي – مشروع إستيطاني وعدوان مستمر
بالمقابل، فإن إسرائيل تمثل النموذج الكلاسيكي للمشروع الإستعماري التوسعي:
1-الإحتلال والضمّ: تحتل إسرائيل منذ عام 1967 هضبة الجولان السوري، وقد أعلنت ضمها رسمياً عام 1981، في خطوة رفضها العالم أجمع باستثناء الولايات المتحدة في عهد ترامب.
2-سياسة الحصار والإبادة: تفرض إسرائيل حصاراً خانقاً على أكثر من 2.5 مليون فلسطيني في غزة، وتحرمهم من أبسط مقومات الحياة، في سياسة إبادة بطيئة، ووضع الفلسطينيين وقمعهم في الضفة الغربية والقدس معروف أيضاً .
وعلى صعيد لبنان، لم تتوقف الإعتداءات الإسرائيلية منذ سبعينيات القرن الماضي،عام 1978عملية الليطاني ،عام 1982 إجتياح بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا، عام 1993 عملية تصفية الحساب، عام 1996 عملية عناقيد الغضب ومجزرة قانا، عام 2006 حرب تموز التي إستمرت 33 يوماً وأسفرت عن أكثر من ألف شهيد وتدمير واسع للبنية التحتية، والحرب الأخيرة عام 2024 والتي لم تنتهي فعلياً حتى الان رغم توقيع ما يسمى بوقف إطلاق النار، فإسرائيل تواصل خرق الأجواء اللبنانية وشن اعتداءات على الجنوب بصورة شبه يومية.
3-العدوان المستمر على سوريا: الغارات الإسرائيلية على دمشق وجنوب سوريا لم تتوقف منذ 2011،وبعد إسقاط النظام البائد بل زادت من وتيرتها، تحت شعار “المعركة بين الحروب”، لإبقاء سوريا في حالة إنهاك دائم.
4-الخطاب التوسعي المعلن: من “إسرائيل الكبرى” إلى التصريحات المتكررة عن السيطرة من النيل إلى الفرات، يكشف قادة إسرائيل عن مشروع توسعي صريح لا يعرف حدوداً، وعلى لسان رئيس الوزراء في لقاء تلفزيوني يحلم بقيام إسرائيل الكبرى .
إسرائيل إذن ليست دولة جوار، بل عدو وجودي قائم على نفي الآخر واقتلاعه.
ثالثاً: المشروع الإيراني – الطائفية كأداة للتوسع
إلى جانب المشروع الإسرائيلي، يبرز المشروع الإيراني كنموذج آخر للتوسع، قائم على تفكيك المجتمعات العربية عبر الطائفية.
1-خريطة النفوذ الإيراني:
-الأحواز المحتلة منذ 1925لغاية الآن .
-العراق بعد 2003، حيث تحكم إيران بالقرار عبر الميليشيات لغاية الآن.
-لبنان عبر “حزب الله” لغاية الآن.
-اليمن عبر الحوثيين لغاية الان
-سوريا في عهد الأسد عبر الميليشيات الطائفية القادمة من العراق ولبنان وأفغانستان.
2-الطائفية كسلاح: إيران لا تستوطن الأراضي، لكنها تُعيد تشكيل المجتمعات من الداخل عبر الميليشيات المذهبية الموالية لولاية الفقيه.
3-العرب كأوراق تفاوضية: في كل جولة تفاوض مع الغرب، لم تكن إيران تحمل سوى دماء العرب ومصائرهم كأوراق مساومة.
4-المقارنة مع تركيا: تركيا – رغم أطماعها العثمانية – ليست مشروعاً طائفياً، ولم تُنشئ ميليشيات مذهبية لتفتيت المجتمعات العربية. تدخلها يظل سياسياً وأمنياً وظرفياً، بينما المشروع الإيراني عقائدي وأيديولوجي يسعى لإعادة صياغة المنطقة بأكملها.
رابعاً: البعد الوطني في رفض التطبيع
على الرغم من الحرب والدمار والنزوح، ظل الموقف الشعبي السوري تجاه إسرائيل ثابتاً:
-رفض إستقبال جرحى في المستشفيات الإسرائيلية.
-التمسك بالذاكرة الوطنية المجبولة بالحروب ضد إسرائيل (1948، 1967، 1973).
-الإصرار على أنّ التطبيع مع إسرائيل خيانة وطنية.
هذا الثبات الشعبي يكشف أن الهوية الوطنية السورية ما زالت ترى في إسرائيل عدواً وجودياً لا يمكن التعايش معه، مهما حاولت بعض الأنظمة العربية تبرير التطبيع تحت مسميات “السلام الإبراهيمي” أو “الواقعية السياسية”.
خامساً: قضية لواء إسكندرون وأطماع العثمانية
1-السياق التاريخي: سلخ اللواء عام 1939 تمّ في عهد الانتداب الفرنسي وبتنازل منه لتركيا، قبل قيام دولة سورية مستقلة عام 1946وقبل نشوء الأمم المتحدة عام 1945 وقبل تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 .
2-اتفاقية أضنة 1998: النظام السوري حينها بقيادة حافظ الأسد، تنازل عملياً عن هذا الملف، مفضّلاً ترتيبات أمنية مع تركيا على حساب المطالبة باللواء.
3-أطماع العثمانية الجديدة: لا يمكن إنكار أن خطاب “العثمانية الجديدة” حاضر في السياسة التركية، لكن هذا الطموح يظل في إطار النفوذ السياسي والاقتصادي، لا في مشروع إستيطاني أو طائفي.
4-التعامل الإستراتيجي: المصلحة الوطنية السورية تقتضي تأجيل ملف اللواء إلى ظرف مناسب، مع الإستفادة من تركيا كجار له وزن إقليمي، مع الحذر من مطامعها.
سادساً: التحديات الداخلية – خطاب حكمت الهجري نموذجاً
خطورة المساواة بين تركيا وإسرائيل تتجلى في بعض الأصوات الداخلية، مثل رجل الدين الدرزي حكمت الهجري الذي دعا علناً إلى الدعم الإسرائيلي وألمح إلى خيار الانفصال.
وهذا ما شهدناه في مظاهرات السويداء منذ أيام لبضع مئات من الأشخاص. إن مثل هذه الدعوات تمثل انحرافاً خطيراً لأنها:
-تضرب وحدة سوريا الوطنية.
-تشرعن التعامل مع عدو وجودي.
-تمنح الإنفصال غطاءً وطنياً زائفاً.
التجارب العربية كلها أثبتت أن الإستقواء بالخارج لا يجلب سوى الفوضى والتفكك، وتحويل البلاد إلى ساحة صراع بالوكالة.
سابعاً: الدلالات السياسية للخلط بين تركيا وإسرائيل
1-إضعاف الجبهة الداخلية.
2-فتح الباب أمام التطبيع مع إسرائيل.
3-شرعنة الانفصال والخيانة الوطنية.
3-تزييف الوعي الجمعي، عبر مساواة دولة جارة استقبلت ملايين اللاجئين بكيان استيطاني قائم على المجازر والإقتلاع .

خاتمة واستشراف

إن مساواة تركيا بإسرائيل خطأ سياسي وتاريخي وأخلاقي.
فتركيا: دولة جارة ذات أطماع وظروف خاصة، يمكن التعامل معها براغماتية، مع الحذر من نزعتها العثمانية.
أما إيران: مشروع طائفي أيديولوجي يهدد وحدة الكيانات العربية من الداخل.
وعن إسرائيل: عدو وجودي استيطاني توسعي، لا يمكن أن يكون شريكاً أو حليفاً.
المصلحة الوطنية السورية تقتضي وضوح البوصلة:
لا تطبيع مع إسرائيل.
لا إستسلام أمام المشروع الإيراني .
تعامل حذر وبراغماتي مع تركيا، مع تأجيل الملفات التاريخية إلى حين توفر ظرف سياسي ملائم.
إن وضوح العدو من الحليف الظرفي ليس ترفاً فكرياً، بل شرط بقاء. فسوريا التي أنهكتها الحرب بحاجة إلى خطاب وطني جامع يرفض الخلط والمساومات، ويضع الأولوية في مواجهة الإحتلال والتفتيت. فقط بهذا الوضوح يمكن أن تستعيد سوريا دورها الطبيعي دولةً مستقلة موحّدة، عصيّة على مشاريع الاستعمار والطائفية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى