
الأنظمة القانونية الحداثية والمعاصرة، ارتبطت بالموروث التاريخى للقانون الرومانى، ومثلت هذه التقاليد القانونية الأطر المرجعية والفلسفية للأنظمة القانونية للدولة الرأسمالية الليبرالية الأوروبية، والأمريكية، وتطورت مع نمو الرأسماليات الأوروبية في الأنظمة القانونية الألمانية، واللاتينية -الفرنسية والبلجيكية، والإيطالية-، والنظام الانجلو ساكسونى والأمريكي.
في النماذج الليبرالية الأوروبية والغربية، تطورت الأنساق القانونية ومعها الحريات العامة والفردية من خلال البرلمانات، والمنافسات الحزبية، وحركة النقابات العمالية والمهنية، وأيضا من خلال أدوار المجتمعات المدنية ومبادراتها في عديد المجالات . من ثم كانت القوانين تعبير عن مصالح القوى الطبقية والاجتماعية المسيطرة، ثم تغيرت نسبيا بعض الإدراكات السياسية لمفهوم دولة القانون والحق، التي استوعبت ضرورة مراعاة مصالح بعض الفئات الاجتماعية والمهنية ، لضمان الاستقرار الاجتماعى والسياسى للدولة، والنظام الليبرالى، وخاصة مع تبلور مفهوم دولة الرفاهة الاجتماعية .
تأثرت القوانين تاريخيا ، بالتطورات التكنولوجية والاقتصادية ، مع تطور الثورات الصناعية ومعها النظام الرأسمالي والتغيرات الاجتماعية والفردانية ومفهومي الحريات العامة والفردية وممارساتهم في المجالين العام والفردي ، والتزام سلطات الدولة الثلاث بهم ، وفي ممارساتهم كل في نطاقها ، واحترامهم لها في إطار توزيعات القوة في بنيات الدولة الأمة . قامت السلطات القضائية بصون وحماية الحريات ، وأرست المبادئ القضائية المبادئ العامة الضامنة والحامية لها في مواجهة أي سلوك سياسي أو إداري يجافي هذه المبادئ ، التي أرساها القضاء المستقل، وجماعات القضاة في ظل نظام الفصل بين السلطات -آيا كان في النظم البرلمانية، وشبه الرئاسية والرئاسية-، وتوزيع القوة بين السلطات وتوازنها.
الفلسفة القانونية الوضعية ظلت مسيطرة، ولا تزال في العقل القانوني ، والثقافات القانونية الغربية، وطابعها الشكلانى في صياغة السياسات التشريعية -القيم القانونية، والمصالح موضوع الحماية القانونية، وأطرها الموضوعية والإجرائية-، ومن ثم شكلت ولا تزال الثقافة والوعى القانوني لدى غالب المشرعين والقضاة، وقادة الأحزاب السياسية. ترتكز القوانين الوضعية الحديثة ومابعدها علي تنظيم وضبط السلوك الاجتماعي بين الأفراد والشخصيات القانونية المعنوية الخاصة والعامة – الاعتبارية كالشركات علي اختلاف أنظمتها ومجالات عملها ، والمؤسسات السياسية والهيئات العامة – ، وفرض بعض الضوابط الموضوعية والإجرائية علي أعمال وسلوك الأفراد والشخصيات المعنوية علي اختلافها . تميل الوضعية القانونية إلي النظر إلي الظواهر الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والجنائية أيا كان مجالها ونطاقها ، والمشكلات والأزمات التي تظهر وتتفاقم بين الحين والآخر داخل المجتمع ، ومن ثم رصدها وتحديد أسبابها ، وعندما تبدو الضرورات الموضوعية إلي التدخل التشريعي من السلطة التنفيذية ، او من أعضاء البرلمانات ، من خلال المشروعات بقوانين ، تميل الحكومات ، والبرلمانات إلي التشريع من اجل مواجهة هذه الظواهر والمشكلات ، والأزمات من خلال الضبط والتنظيم القانوني ، وفي بعض الأحيان البحث في أسبابها وعوامل نشأتها ، ووضع التنظيم والضبط الملائم لها من منظورات واقعية ولاتلتزم بالمثالية القانونية ، ومفهوم القانون الطبيعي والعدالة . الوضعية القانونية تميل الي الواقعية والبراجماتية القانونية – إذا جاز التعبير وساغ – من حيث تحديد المصالح الاجتماعية والاقتصادية المتنافسة او المتصارعة ، والمصالح العامة او الفردية ، وتغليب بعضها علي الآخر من منظور القوي الاجتماعية والسياسية المسيطرة في لحظة وضع القوانين . الوضعية القانونية هي أحد تجليات العلمانية الأوروبية ، وانفصال الوضعي عن الميتاوضعي ، ومن ثم القوانين الغربية علمانية ، ومنفصلة عن الأديان السماوية ، والوضعية . من هنا تركز الوضعية القانونية علي توازنات القوي الاقتصادية والاجتماعية ، وتميل إلي الواقع الموضوعي في ذاته ، والبنيات النصوصية للتشريعات وضعا وتفسيرا وتأويلا .
في عديد المراحل التاريخية كانت القوانين تنظم وتضبط السلوك الاجتماعي الفردي وللشخصيات المعنوية الخاصة والعامة في ظل استمرارية وصلاحية نسبية للنصوص القانونية التي تحكم وتضبط السلوك الاجتماعي والاقتصادي ، والجزائي في الدولة والمجتمع الغربي المتقدم ، وتستمر النصوص القانونية لفترات زمنية ممتدة ، ويقوم القضاء بتأويلها وتفسيرها ، لتواكب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
في بعض الحالات تبدو الحاجة الموضوعية إلي ضرورة ادخال تعديلات علي نصوص بعض القوانين ، أو ادخال نصوص جديدة في القانون العام او المدني او التجاري ، او في المجالات الاقتصادية ، او وضع قوانين تنظم بعض السلوكيات الاجرامية من مثيل جرائم الأرهاب ، او تشريعات او قرارات تبيح التحول الجنسي اوالزواج بين المثليين في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة او السماح به كزواج رسمي !
كانت التغيرات الاجتماعية تتحقق في مدي زمني يتوافق مع التطورات التكنولوجية في ظل الرأسمالية الليبرالية وتأخذ بعض الوقت في تأثيراتها الاجتماعية والقيمية ، ومن ثم تظل القوانين وقابليتها للتطبيق والضبط الاجتماعي صالحة نسبيا ، من خلال التطبيقات القضائية للجماعات القضاة المستقلين مع سلطتهم القضائية . مع تطورات النظام الرأسمالي ، حدثت تطورات في بنيات القوة الاجتماعية والسياسية ، وهو ما أثر علي القانون والمصالح الجديرة بالحماية والتنظيم ، ومن ثم علي دولة القانون ، والوضعية القانونية كفلسفة مستمرة وسياسات التشريع .
ارتباط دولة القانون والحق بالنظام الليبرالى والرأسمالى وتطوراته المختلفة ، أدى إلى تغير في القوى المؤثرة على طبيعة المصالح موضوع الحماية القانونية في الدول الأوروبية، والولايات المتحدة وكندا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرهم . لم تعد القوي المؤثرة تتمثل فقط في الطبقة البورجوازية ، وأحزابها وممثليها في البرلمانات ، أوبعض جماعات الضغط البرلمانية وخارجها – علي المثال الأمريكي – ، او من خلال ضغوط النقابات العمالية وممارساتها للحق في الإضراب ، او التظاهر السلمي دعما لمصالحها ، او من خلال حرية أجهزة الاعلام المكتوبة – الصحافة – والمسموعة والمرئية ، ودفاعها وتعبيرها عن بعض المصالح وخطاباتها النقدية للحكومات ومشروعاتها بقوانين المقدمة للبرلمان .
مع الثورة الصناعية الثالث و الرابعة، والعولمة ومابعدها ، والنيوليبرالية الرأسمالية، باتت الشركات الرأسمالية الكونية في مجال الإنتاج والخدمات، تشكل احد اهم القوي المؤثرة على مدخلات التشريعات، ومخرجاتها، من خلال تأثيرها على قادة الأحزاب السياسية الكبرى، ورؤساء الحكومات، والدول، وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما تجسد في تقليص جزئى للسياسات الاجتماعية في مجال الصحة، والتأمينات الاجتماعية -وإعانات البطالة، وإعادة التأهيل للعاطلين لوظائف أخرى- ثم في فرض بعض مصالح وتوجهات هذه الشركات العملاقة على عمليات اعداد ، ووضع القوانين، وإصدارها . استطاعت الرأسمالية النيوليبرالية، وشركاتها الكبرى أن تخترق وتعيد تشكيل الشبكات والأنظمة القانونية العالمية من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، عبر عديد الأشكال والروابط في ظل العولمة، وتوحيد الأسواق الوطنية لتغدو جزءا من السوق الرأسمالي الكوني. ثم تجاوز النظم القانونية الوطنية، وأيضا الأنظمة القضائية عبر نظام التحكيم الدولى حال حدوث نزاعات قانونية مع الحكومات والشركات الوطنية العامة والخاصة في رأسيماليات جنوب العالم التابعة، وغيرها .
تأثرت دولة القانون والحق بالتغيرات الاجتماعية فائقة السرعة والمتلاحقة ،لاسيما في انساق القيم، وثورة الاستهلاك المفرط، وتنامت وتضخمت حرية الاستهلاك لتغدو هي أم الحريات العامة والفردية، وخاصة في ظل فجوات الثقة بين الجماعات الناخبة، وبين الأنظمة السياسية التمثيلية ، وتمدد أزمات القابلية للمحكومية والأمتثال لهذه الأنظمة، والمشاركة السياسية الفعالة من خلال الأحزاب السياسية، والانتخابات والاستفتاءات العامة في هذه البلدان، ولجوء الغالبية للمشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحلية والرئاسية، في المدد الزمنية المحددة لها فقط، مع بعض التظاهرات الغاضبة إزاء بعض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
مع ثورة الاستهلاك المفرط، وتشيئ الحياة الإنسانية، التي بدت وكأنها سلعة ضمن السلع في السوق السياسى والاستهلاكي المتنامى، والسريع، من ثم خضعت القوانين لضغوط، وتأثيرات الشركات الرأسمالية العملاقة لحماية مصالحها في عالم السرعة الفائقة، وخاصة مع الثورة الصناعية الثالثة، والرابعة، التي تغيرت معها أنظمة القيم الاجتماعية، وتزايدت مستويات العزلة الفردانية، وتفكك وتمزق الروابط الاجتماعية، على نحو أثر على أدوار ووظائف الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها السياسية، والاقتصادية والاجتماعية في تمثيل مصالح القوى الاجتماعية التي تمثل قواعدها الناخبة، وهو ما أدى إلى فجوات بين هذه الأحزاب -لاسيما التاريخية ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة -، وبين بعض قواعدها الاجتماعية وايضاً نهاية السرديات السياسية والإيديولوجية الكبرى .
أدت السرعة الفائقة لتطورات التكنولوجيا مع الثورتين الثالثة، والرابعة إلى سرعة فائقة في تطور المجتمعات ومشاكلها وظواهرها وأزماتها ، ومن ثم تغير في طبيعة المصالح الاجتماعية والفردية، وفى إضعاف نسبي وجزئي لفاعلية التشريعات المنظمة للسلوك الاجتماعي، والمؤسسات، والدولة ، وأيضا في بروز الفجوات بين التشريعات، وبين التغيرات فائقة السرعة في المجتمعات الأكثر تقدما، ومن ثم علي بعض تطبيقات القضاء لهذه القوانين في بعض النزاعات المرفوعة أمامهم من الأفراد، أو الشركات، بل وفى بعض القضايا الجنائية على الرغم من الدور التفسيرى -التأويلى للقضاة للنصوص القانونية على الوقائع القانونية موضوع الدعاوى، أو أدلتها في القضايا الجنائية.
السرعة الفائقة سمت الثورة الصناعية الثالثة والرابعة، أدت إلى تعاظم قوة الرأسماليات الرقمية العملاقة في التأثير على مفاهيم الدولة والسيادة والقومية، والقانون، والحريات، وتمددت بعض هذه القوة الرقمية في مجال وضع السياسات من خلال اعتماد بعض السياسيين، والأحزاب في توظيف الذكاء الاصطناعى في إعداد القوانين، كعامل مساعد، لكن مع تعاظم الذكاء التوليدى سيؤثر ذلك على تمدد استخدامه في وضع وإعداد بعض القوانين، ومناقشاتها في البرلمانات، وفى الحكومات، والأحزاب السياسية، بل وعلى الأفراد، والجماعات الرقمية في نقدها، أو مناقشة هذه القوانين على الحياة الرقمية، وضغوطها الفعلية على البرلمانات، والحكومات.
بعض الحكومات سيلجأون في أوروبا والولايات المتحدة إلى الذكاء التوليدى، في رصد الوقائع المؤثرة في الدعاوى المرفوعة أمامهم، وتحليلها، وتحديد عناصرها ووقائعها المؤثرة في هذه النزاعات، بل وقد يمتد ذلك مستقبلًا إلى تسبيب الأحكام، وفى الرجوع إلى تاريخ المبادئ القانونية للمحاكم العليا -في الأنظمة الانجلو ساكسونية، وفي نظام جهتى القضاء المدنى والادارى الفرنسي واللاتينى- واختيار المبادئ الملائمة لإصدار الأحكام مستقبلا . لا شك أن تنامى دور الذكاء التوليدى، سيؤدى إلى تنامى دوره في مجال وضع القوانين، وتطبيقاتها، وفى بحث مدى فاعليتها في ضبط السلوك الاجتماعى، وتنظيمه.
عالم في حالة تغير فائق السرعة، في المفاهيم والأفكار، والقوانين، وخاصة في التغيرات التي يشهدها عالم الإناسة الروبوتية ومؤشرات مابعدها ، وخاصة النظرات المتشائمة لبعض الآباء الروحيين للذكاء الاصطناعي التوليدي ، وإحتمالات سيطرة الذكاء الاصطناعي التوليدي علي البشري في بعض التصورات المتشائمة ، في ظل التحول إلي مابعد الإنسانية خاصة في ظل عدم التوصل إلى تنظيم للذكاء التوليدي والروبوتات لتظل البحوث والمختبرات تحت التنظيم ، وحتي لاتتحرر الروبوتات وأنظمة الذكاء التوليدي من السيطرة الإنسانية ، وهو احتمال وارد ، ويشكل خطورة علي تنظيم الحياة الإنسانية في كل المجالات ، بما فيها الإبداع الإنساني ، وايضاً مفاهيم الدولة ، والقانون والفلسفة ، والمصالح المسيطرة ، إنسانية أم روبوتية .. الخ ! نحن علي مشارف عالم يعتوره الغموض ، ومحمول علي رؤي وتصورات تبدو متعارضة ، وتحليله يتطلب نظرات جدُ مختلفة ، ولغة جديدة تماما وبدأت فعلا مع ثورتي الرقمنة والذكاء التوليدي ، وستحل في المستقبل المتوسط والبعيد نسبيا محل ما ألفناه في لغة القانون والفلسفة والسوسيولوجيا والأدب والفنون في غالبها . عالم وصفه سابقا أنطوني جيدنز في كتاب بعنوان عالم جامح ، كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا ، هذا في ظل العولمة ، في العالم الجديد مابعد الإنسانية ستتناوب عديد الفلسفات والنظريات والمفاهيم في عالم القطيعة مع الإنسانية !
المصدر: الأهرام