المخاض السوري طائفية وعَلمانية   

علي العبدالله

 

أثار عقد كونفرانس “وحدة الموقف لمكوّنات شمال وشرق سورية”، الذي نظمته في الحسكة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، ردود فعل شعبية متباينة متعارضة متناقضة تبدأ بالاستهزاء والتسخيف وتنتهي بالتخوين من دون أن نعدم دعوات إلى المواجهة (بيان عشائر عربية)، من موالي السلطة السورية الجديدة، وبالترويج والتعظيم من موالي الإدارة الذاتية وموالي الشيخ حكمت الهجري من الموحدين الدروز وموالي الشيخ غزال غزال من العلويين. وصفه “حلف الأقليات” موالو الطرف الأول، و”حلاَ تاريخياً لسورية”. وجاء ردّ فعل السلطة حادّاً عكسه رفضها ما جاء في بيانه وإعلانها عن عدم المشاركة في اجتماع مع قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كان سيعقد في باريس ودعوتها إلى نقل كل الاجتماعات إلى دمشق.

لا يشكّل عقد ذلك الكونفرانس تحوّلاً درامياً في مواقف “الإدارة الذاتية” وتوجّهاتها، فلا جديد في عقده، والبيان الصادر عنه ليس أكثر من نقلة على رقعة شطرنج المفاوضات مع السلطة السورية الجديدة، هدفها الرئيس تحديد تخوم عملية التفاوض لدعم الجنرال مظلوم عبدي، في مواجهة المبعوث الأميركي إلى سورية، توم برّاك، الذي يضغط عليه للقبول بتفسير السلطة لاتفاق 10 مارس (2025) وبشروطها للاندماج، من جهة، وتعزّز موقفه وتثقل أوراقه في المفاوضات عبر إشراك عرب وتركمان وشركس وسريان في “الكونفرانس”، وجلب دعم من خارج منطقة شمال سورية وشرقها عبر مشاركة الشيخين حكمت الهجري وغزال غزال بكلمتين مسجلتين عن طريق تقنية الفيديو، من جهة ثانية، وقد منح عقده وبيانه السلطة فرصة لتلبية طلب تركيا بعدم المشاركة في اجتماع باريس، والعمل على نقل المفاوضات إلى دمشق. وطلب أنقرة مرتبط بتقدير مفاده بأن عقد الكونفرانس جرى بدفع فرنسي توسيعاً للاشتباك السياسي الفرنسي معها بإضافة الساحة السورية، حيث تتباين التصورات والخيارات والتحالفات بشأن مستقبل سورية، إلى ساحات اشتباك أخرى كثيرة.

انطوت كلمة رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى، غزال غزال، الموجّهة إلى المشاركين في المؤتمر، ومن خلفهم إلى السوريين والمجتمع الدولي، على المطالبة بدولة علمانية، سبق لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، المطالبة بذلك، ما اعتبرها كثيرون مطالبة غريبة من شيخين يدافع كل منهما عن مصالح طائفته، ويدفع، في الوقت نفسه، نحو قيام نظام سياسي علماني في البلاد، موقف مركب جمع نقيضين: الطائفية والعلمانية. وواقع الحال أن هذا الموقف، ومطالبة رجال دين بدولة علمانية، واعتبرت غريبة، يمكن فهمها وتفهمها في السياق السوري، حيث قادت سياسة عقود من التمييز والقمع طوال حكم الأسدين وملاحقة نشاط الأحزاب السياسية ومنظّمات المجتمع المدني، ومنعها من العمل القانوني والعلني وزج قياداتها وكوادرها وبأعداد كبيرة في السجون فترات مديدة، وفشل من تبقّوا من هذه القيادات والكوادر طلقاء في تحقيق معادلة البقاء والنجاح في تحقيق تأثير في الواقع وشدّ انتباه المواطنين إلى دعواهم ومطالبهم وخياراتهم، مقابل نجاح رجال الدين من كل الأديان والمذاهب في اقامة توازن دقيق بين التعاطي الإيجابي مع تطلعات أبناء أديانهم ومذاهبهم الدينية السياسية والاقتصادية وعدم مواجهة السلطة وتوجهاتها وخياراتها بشكل مباشر، قادت إلى تصدّر المشهد السياسي بكسبهم الحسنيين: شعبية بين أبناء أديانهم ومذاهبهم الدينية تحصّنهم من بطش السلطة وقبول من السلطة يمنحهم فرص لحل بعض مشكلات أبناء أديانهم ومذاهبهم الدينية وحمايتهم من بطش السلطة فغدوا قبلة للسلطة، لضبط ردود فعل المجتمعات على قراراتٍ غير شعبية تتخذها، ولأبناء أديانهم ومذاهبهم الدينية، لحل بعض مشكلاتهم مع السلطة وحمايتهم من بطشها. وهذا وضع المجتمع السوري ومكوناته الاجتماعية تحت رحمة ثنائية قاتلة: السلطة ورجال الدين، يؤدّي الاختيار الأول إلى الاستسلام للاستبداد والتمييز والاختيار الثاني يؤدي إلى تكريس الانقسام المجتمعي على أسس دينية ومذهبية، ووضع المتضرّرين من السلطة والرافضين لتوجهاتها وخياراتها أمام خيار وحيد: رجال الدين لما لهم من مكانة اجتماعية وحصانة أمنية، يتقرّبون منهم يتلقون إرشاداتهم وتوجيهاتهم وينالون حمايتهم، النسبية بالطبع. يلتفون حولهم، كي يحصلوا على الحماية من قمع السلطة وكي يحصلوا على فرصة للتعبير عن مطالبهم السياسية والاقتصادية.

استمرّت السلطة الجديدة في استئثارها بالقرارين، السياسي والاقتصادي، ما قاد إلى تصاعد التوتر والانقسام المجتمعي

مع سقوط النظام البائد تخلخل هذا المشهد، وانهارت المعادلة السياسية أعلاه، على خلفية ممارسات السلطة الجديدة وقراراتها السياسية والإدارية وما انطوت عليه من دلالات تعبّر عن خيارها لهوية النظام السياسي المستهدف: نظام سُنّي، وتغوّل فصيل هيئة تحرير الشام على المجتمع عبر تعيين كوادرها في مستويات متقدمة وفي كل المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية والثقافية وغيرها من مجالاتٍ ترتبط بحياة المواطنين اليومية، وغضها الطرف عن تعديات عناصر الأمن العام على المواطنين ومشاركتهم في انتهاكات ومجازر في الساحل وصحنايا والسويداء ومباركتها للفزعتين، مشاركة مدنيين في الهجوم على الساحل والعشائر في الهجوم على السويداء، ما دفع مجلس الأمن إلى التذكير بقراره 2254 وبنود هذا القرار التي دعت إلى “انتقال سياسي شامل وذي مصداقية”، ما يعني تقييد مسار المرحلة الانتقالية بذلك، وصولاً إلى الدبلوماسية التي تحوّلت إلى أداة لتنفيذ ما تريده إقليميا ودوليا، من دون مراعاة حساسية الموقف وضرورة أن تؤدي دوراً متوازناً يلاحظ أهمية الحفاظ على أدوار القوى السياسية والاجتماعية لباقي أبناء المجتمع السوري، عبر التصرّف بمنطق الدولة ودورها ومهامها ومجالات سلطتها، والمواطن ودوره في بناء قدرات البلاد وقوتها وحماية سيادتها في مواجهة الأخطار والتهديدات الخارجية ومحاولات النيْل منها، وتباين مواقف رجال الدين واختياراتهم واصطفافاتهم إزاء توجهات السلطة، حيث مال المشايخ السُنّة إلى الانحياز إلى السلطة الجديدة، اعتبروها سلطتهم، كونها سُنّية، ومال الآخرون من الأديان والمذاهب الإسلامية الأخرى إلى الحذر والقلق، في ضوء تاريخ هيئة تحرير الشام وتوجهات السلطة الجديدة وخياراتها الفئوية والمغلقة، ودعوا إلى احترام التعدّد والذهاب نحو التشاركية في ظل وطنية وعدالة ومساواة، لكنهم لم يحصلوا على استجابة مناسبة، فقد استمرّت السلطة الجديدة في استئثارها بالقرارين، السياسي والاقتصادي، ما قاد إلى تصاعد التوتر والانقسام المجتمعي على خطوط الأديان والمذاهب الدينية ودفع أبناء مذاهب إسلامية من غير السُنة نحو مطالبات من الوزن الثقيل: لامركزية، حكم ذاتي، حماية دولية، زادت تظاهرة السويداء السبت 16 أغسطس/ آب الجاري الموقف حدّة بمطالبتها بحق تقرير المصير، والمناداة بالعلمانية مدخلاً لكسب الندّية والمساواة مع أكثرية مذهبية حاكمة، لأن العلمانية تقضي بهما، وتحرير العلاقات بين الأديان والمذاهب الدينية من ثنائية أكثرية وأقليات دينية، يمكن تلمّس هذا المسعى حتى في المجال السياسي، حيث مال أبناء الديانة المسيحية والمذاهب الإسلامية الصغيرة إلى الالتحاق بالأحزاب الشيوعية والعلمانية للسبب نفسه: البحث عن العدالة والمساواة في بيئة قابعة تحت ثقل ثنائية أكثرية وأقليات دينية مجلّلة بذكريات تاريخية شديدة المرارة. ترتب على هذه التركيبة الخطيرة تعميق التفكك الاجتماعي وتكريس الانقسام السياسي وتحويل سورية إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي ابتلع دور السلطة وحضورها، حدّ من مساحة تحرّكها وقيد قدرتها على المناورة، وعلى بسط سيطرتها على الأرض السورية.

البيان الصادر عن “كونفرانس” الحسكة ليس أكثر من نقلة على رقعة شطرنج المفاوضات مع السلطة السورية الجديدة

يقتضي الموقف الدقيق والخطير تحرّكاً عاجلاً على صعيدين، صعيد السلطة السورية الجديدة بتبريد البؤر الساخنة في الساحل والسويداء وشمال سورية وشرقها وتنفيذ إعلاناتها المتواترة بشأن معاقبة مرتكبي الانتهاكات بحق المواطنين ورفع الحصار عن السويداء ومدّها بالأغذية والأدوية والكهرباء والماء والإعلان عن استعدادها لإعادة نظر شاملة بما اتخذته من قرارات وأصدرته من مراسيم، من توصيات “همروجة” مؤتمر الحوار إلى الإعلان الدستوري، والبدء بذلك عمليا. الصعيد الثاني من شيوخ المذهب الإسلامي الأكبر، السُنّة، ومجلس الإفتاء العتيد، الذي يستطيع كسر الجليد بينه وبين بقية المذاهب الإسلامية بالاعتراف بشرعيتها وانتمائها إلى الجذر الإسلامي، كما فعل شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت عام 1959 عندما أفتى بالاعتراف بالمذهب الشيعي الاثني عشري وعدّه مذهباً خامساً في الإسلام يجوز التعبّد به، والقول إن اجتهاداتها الخاصة لا تخرجها من الدين الحنيف، حيث إنها متمسّكة بأصول الإيمان الثلاثة: الله والرسل واليوم الآخر، بقدر ما تجعلها صاحبة اجتهاد خاص. وتعديل نظرته إلى أصحاب الديانات السماوية الأخرى التي لها قراءات خاصة لطبيعة الذات الإلهية، ما أثار شكوكاً بشأن حقيقة توجهها التوحيدي، علما أن في اجتهادات مسلمين مواقف مشابهة تتعلق بطبيعة الله عز وجل كالمشبهة والحشوية واتباع القول بوحدة الوجود وإسباغ أصحاب الحديث على الحديث النبوي الشريف مكانة أكبر من مكانة القرآن الكريم تجسّد في قولهم إن الحديث النبوي ينسخ القرآن الكريم، مواقف تعكس نقطة ضعف في العقل البشري الذي لم ينجح في التفاعل مع كيان مجرد وتقبّله والتعايش معه ما دفعه إلى وضع المجسّد والملموس في مكانه والتعاطي معه باعتباره الأصل والمنبع، وترك الفصل بينها لله عز وجل كما قال في محكم كتابه: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الحج: 17).

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى