الشرق الأوسط بين ألاسكا ودمشق: تسويات على حساب إيران

صهيب جوهر

القمة الأميركية – الروسية التي عُقدت في ألاسكا لم تكن مجرد محطة بروتوكولية عابرة، بل جاءت لتؤكد أنّ التوازنات الدولية تعود إلى لعبة ثنائية، تعيد إلى الأذهان مشهد الحرب الباردة.

وقد يبدو هذا التشبيه للوهلة الأولى مبالغاً فيه، غير أنّ حضور روسيا في صميم الملفات الكبرى من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط يجعل القمة ذات طابع استثنائي. وفي حين خرج فلاديمير بوتين وقد كسب اعترافاً أميركياً غير مباشر بدوره الدولي، بدا أنّ جوهر اللقاء أُبقي طي الكتمان، وهو ما عكسه المؤتمر الصحفي القصير وحرص الرئيس الروسي على إغلاق باب الأسئلة، تجنباً لوقوع دونالد ترمب في فخ الاستعراض الإعلامي وكشف ما لا يجب كشفه.

لكن ما يستحق التوقف عنده هو أنّ القمة لم تكن بعيدة عن الشرق الأوسط. وجود المسؤولين المباشرين عن هذا الملف في وفدي البلدين أشار بوضوح إلى أنّ الساحة السورية تحديداً كانت بنداً مركزياً على الطاولة. ولعلّ ما تلا القمة من حراك عسكري روسي في سوريا، بعد فترة انكفاء أعقبت سقوط نظام الأسد، أكد أنّ موسكو نالت تفويضاً أو على الأقل ضوءاً أخضر أميركياً للعودة إلى المسرح السوري.

منذ انهيار النظام السابق في دمشق، تراجعت روسيا خطوات إلى الخلف، مكتفية بالتمركز في قاعدتي حميميم وطرطوس. هذا الانكفاء سمح لتركيا بملء الفراغ شمالاً، عبر تفاهمات مع واشنطن هدفت إلى إخراج إيران وتفكيك نفوذها. غير أنّ الطموح التركي سرعان ما ظهر أوسع بكثير مما أراد الأميركيون أنفسهم، وأثقل على التوازنات الدقيقة في المنطقة. وهنا كان لا بد من استدعاء روسيا مجدداً، ولكن هذه المرة في دور مختلف: عامل توازن يكبح اندفاعة أنقرة، ويمنعها من الانفلات خارج الحدود المرسومة لها.

عودة موسكو بدت واضحة في منطقة القامشلي. فقد عززت وجودها في المطار، أعادت تأهيل مدرجاته، وسّعت مواقع سكن قواتها، وشرعت في تسيير دوريات عسكرية وصلت إلى ريف المدينة. هذه الخطوات لم تواجه بأي اعتراض أميركي، بل بالصمت التام، وهو صمت لا يمكن فهمه إلا كإقرار، وربما كتفاهم غير معلن. وفي جوهره، يقوم هذا التفاهم على إخراج إيران من المعادلة السورية تدريجياً، ومنعها من إعادة التموضع، بالتوازي مع إبقاء اليد الروسية عاملاً موازناً للنفوذ التركي.

في الجنوب، المشهد لم يكن أقل حساسية. فقد طلبت دمشق من موسكو إعادة الدوريات الروسية إلى المناطق الحدودية مع إسرائيل، على نحو يعيد إنتاج ما كان قائماً قبل سقوط النظام. الهدف هنا مزدوج: أولاً، منع التوسع الإسرائيلي جنوباً، وثانياً، منح الشرعية للنظام الجديد أمام الداخل السوري باعتباره قادراً على ضبط الحدود. المثير أنّ واشنطن لم تُبد اعتراضاً، بل أوحت بقبول ضمني، انطلاقاً من قناعة مفادها أنّ لجم إسرائيل مؤقتاً يمنح الترتيبات الدولية وقتاً إضافياً لترتيب البيت السوري من الداخل.

تزامن ذلك مع المشهد اللافت في السويداء، حيث رفعت الأعلام الدرزية والإسرائيلية جنباً إلى جنب، وصدحت الهتافات مطالبة باستقلال كامل. بدا الأمر وكأنه مسرحية أخرجتها تل أبيب لتبعث برسالة مفادها أنّ إعادة رسم الخريطة يجب أن تبدأ من الجنوب. غير أنّ واشنطن لم تكن مرتاحة للتوقيت، فهي لا تعارض الفكرة في جوهرها، لكنها ترى أنّ القفز إلى مرحلة “الاستقلال الدرزي” قبل ترتيب بقية الملفات سيعقّد المشهد أكثر.

هنا يطلّ الرئيس السوري أحمد الشرع بمقاربة مختلفة. في إطلالاته الأخيرة، نفى تماماً خطر تقسيم سوريا، مؤكداً أنّ وحدتها خط أحمر. لكنه في الوقت نفسه يدرك أنّ تحقيق هذا الهدف لن يكون بالقوة وحدها، بل عبر عملية سياسية متدرجة. الشرع وصف مسار توحيد سوريا بأنّه “المعركة الأخرى” بعد معركة تحريرها، معتبراً أنّ الدماء ليست طريقاً للحل. وفي حديثه عن التفاوض مع “قسد”، بدا أكثر تفاؤلاً من أسلافه، مشيراً إلى إمكانية إيجاد تسوية تُبقي على وحدة الكيان السوري وتستوعب الهواجس الكردية في آن واحد.

هذا التوازن بين التشدد في مسألة الوحدة والمرونة في إدارة الملفات الداخلية يعكس إدراك الشرع لحساسية اللحظة. فالتحدي أمامه لا يقتصر على طرد النفوذ الإيراني كما يريد الأميركيون والروس معاً، بل يتعداه إلى كيفية احتواء النفوذ التركي المتنامي في الشمال، والتعامل مع الضغوط الإسرائيلية في الجنوب، والتوفيق بين مطالب المكونات المحلية المتعددة. وفي هذا السياق، يصبح الحضور الروسي بمثابة “الغطاء الدولي” الذي يسمح للنظام الجديد بالتقاط أنفاسه وترتيب أولوياته.

الشق السوري من المشهد لا يمكن عزله عن الملفات الأخرى. إعادة روسيا إلى الساحة جاءت بقرار دولي ضمني، والرسالة الأوضح هي أنّ موسكو لن تكون خصماً، بل شريكاً في تطبيق خريطة الطريق الأميركية: إخراج إيران أولاً، ثم تثبيت التوازنات الإقليمية على إيقاع جديد. هذا ما يفسّر أيضاً عودة الدوريات الروسية جنوباً، وإعادة تموضعها في القامشلي، وحتى الصمت الأميركي على ذلك.

لكن التحديات ما تزال كبيرة. فإسرائيل ترى في الجنوب السوري فرصة لإعادة صياغة نفوذها، وتركيا تنظر إلى الشمال كامتداد طبيعي لمشروعها الإقليمي، في حين ما تزال “قسد” تتوجس من أي تفاهم قد يطيح بمكتسباتها. وبين كل هذه القوى، يحاول الشرع أن يثبت أنّ مشروعه السياسي قادر على الحفاظ على وحدة البلاد دون اللجوء إلى سيناريوهات التفجير الداخلي.

إنّ توسّع الحضور الروسي في سوريا بعد القمة الأميركية – الروسية ليس تفصيلاً عابراً. هو مؤشر إلى أنّ المنطقة مقبلة على إعادة توزيع أدوار اللاعبين الأساسيين. وإذا كانت موسكو قد نالت اعترافاً أميركياً بضرورة وجودها، فإنّ اختبار نجاحها سيتحدد بمدى قدرتها على تحقيق التوازن بين الأطراف المتناقضة: كبح تركيا، ردع إسرائيل، إخراج إيران، وطمأنة المكوّنات السورية. هذه معادلة صعبة، لكنها وحدها الكفيلة بفتح الباب أمام تسوية سياسية حقيقية.

وبذلك يصبح الملف السوري حجر الزاوية في الترتيبات المقبلة. فنجاح موسكو وواشنطن في تحويله إلى نموذج للتفاهم سيعني إمكانية تطبيق السيناريو ذاته في لبنان والعراق، حيث يتكرر المشهد نفسه مع النفوذ الإيراني. أما الفشل، فسينذر بعودة الفوضى إلى الميدان، وإلى صدامات أوسع قد تمتد من دجلة إلى المتوسط.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى