
لا يحاول أحد تجميل مواقفه اليوم، أو حتى تقديمها في قوالب أقل حدّة. خلاصة ما يريده الرئيس محمود عبّاس وحلفاؤه: الإقرار من كلّ فصيل وفرد فلسطيني أنه قد أخطأ برفض نهج الاستسلام التاريخي، وبإصراره على حمل السلاح ضدّ إسرائيل ودعم المقاومة. يريد عبّاس و”العقلانيون” من كلّ فلسطيني لم يوافقهم على المسار التفاوضي، وعلى سياسات التنسيق الأمني مع إسرائيل، الإقرار بأن كلّ مراحل الكفاح المسلّح ضدّ إسرائيل كانت خطأً كبيراً، وبأن من قال “لا” لإسرائيل ولمقاربات عبّاس للصراع معها هو المسؤول اليوم عن إبادة الفلسطينيين في غزّة، وبأن نهج التنسيق الأمني مع إسرائيل والاستسلام بالتقسيط كان الطريق الوحيد الآمن للفلسطينيين. وسلطة رام الله هنا ليست طرفاً ناشزاً لا يمثّل إلا نفسه عندما تطلب ذلك، بل هي تمثّل قسماً واسعاً من الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومن يرتبط بها في الشتات والداخل، سواء ارتباطاً عضوياً بعد التحوّلات الهائلة التي أنتجتها إعادة هندسة مجتمع الضفة الغربية في الثلاثين سنة الماضية، أو امتداداتها بعد التهامها منظّمة التحرير واتساع شبكة المتحالفين مع نهج الاستسلام التاريخي في مواقعهم المختلفة. يتطوّع هؤلاء مجتمعين، بموجب هذا الطرح الجديد، بوضع سلاح المقاومة، وما يختزنه من مضامين رمزية وفعلية، في مقدّمة أولويات البحث المشترك مع الأطراف الدولية، وبربط الاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، والاعتراف بدولة فلسطين بشرط نزع السلاح.
سلاح المقاومة هو الذي فضح سذاجة طروحات من ربط وجوده بإرادة إسرائيلية أو بأنظمة عميلة
لم يولد هذا الفعل السياسي من فراغ، بل نتج ردّة فعل على النجاح الذي حققّه النموذج الغزّي ورهاناته بإيلام إسرائيل وزعزعة أمنها الوجودي بسلاح وقدرات محلّية الصنع. وهو ما وضع هذه الشرائح في المجتمع الفلسطيني في “7 أكتوبر” (2023) أمام استحقاق واضح: إما التواطؤ مع الإرادة الإسرائيلية والتعلّق بفرص الخلاص الفردي لهذه الفئات وتعظيم مكاسبها أو الانحياز إلى القيم الأصيلة للمشروع الوطني الفلسطيني التي لم تمثّل عملية طوفان الأقصى إلا استمراراً لها. سلاح المقاومة بمعناه الرمزي والفعلي هو الذي فضح سذاجة طروحات من ربط وجوده بإرادة إسرائيلية أو بأنظمة عميلة، ظنّاً منه أن هذا سينجيه من مصير العبودية والإذلال اليومي من إسرائيل. وفضح نخباً عربيةً واسعةً ارتدّت إلى مواقعها الطبقية بعد هزيمة “الربيع العربي”، واندمجت في مشاريع ورؤية الأنظمة السلطوية والمعادية لمصالح شعوبها، وتماهت بشكل كامل مع النظام العالمي المفرط في إمبرياليته منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وما روّجه من خطاباتٍ وسياساتٍ معاديةٍ للاشتراكية، لتجد اليوم أن نتيجة كلّ خياراتها في الثلاثين سنة الماضية هو الإذلال اليومي الذي تعيشه اليوم.
عندما أطلق محمّد الضيف خطابه في بداية “الطوفان”، وطالب كلّ الساحات بالتحرّك، كان يُعبّر عن عمل ورؤية من منظور غزّي، نابع من أفق السجين الحرّ في سجنه، فهذا نداء خرج من غزّة التي هي أكبر مدينة فلسطينية وتجمّع للاجئين الفلسطينيين، احتوت على التركيبة الاجتماعية الأنسب لقيادة مشروع التحرير، والظروف الموضوعية اللازمة لتكوين عقدٍ اجتماعيٍّ بين الأطراف الفاعلة في هذا الحيّز الجغرافي وكتلته الديمغرافية، سمحت له بأن يحظى بدعم شرائح عدّة تشكّلت وربطت ارتقاءها الاجتماعي بمقاومة الاحتلال وبنمط اقتصادي تحت الحصار، بقي ناظمه الرئيس على عيوبه منسجماً مع تصوّرات القوى السياسية التي ترى الصراع مع إسرائيل وهزيمة مشروعها المدخل الوحيد لمستقبل أفضل لكلّ من يعيش في هذه المنطقة. هذه التركيبة المختلفة عن الضفة الغربية والمدن الفلسطينية الصغرى الموزّعة فيها، التي لم تخلخل النكبة بُناها الاجتماعية التقليدية، ما جعلها تحتفظ ببُنى متواصلة أكثر محافظةً، ربط جزء منها نفسه عضوياً بإسرائيل. وانخرطت في خيارات جعلتها تهادن أحياناً، وتتحالف، في أحيان أخرى، مع مشاريع الهندسة الاجتماعية والاقتصادية التي صعّبت على الفصائل الفلسطينية من كسب أرضية اجتماعية واسعة، منفصلة عن البنى التقليدية لترسيخ مشروعها فيها.
“الطوفان” كان قفزةً كبيرةً نحو مواجهة بدأت بالتدحرج، ووصلت بعد التخاذل والخيانة إلى تحقيق الحلم الصهيوني
يمكننا الآن، بأثر رجعي، أن ندّعي أن هذا السجين لم يكن يمتلك فهماً حقيقياً لمدى فردانية التركيبة الاجتماعية التي امتلكها في غزّة، التي سمحت له بأن يفكّر ويقدم على خطوة مثل “طوفان الأقصى”. وبأنها تختلف بسبب سياق تطوّرها عن التركيبة الاجتماعيّة للجماهير وممثليها في الأطر السياسية والمنظمات والهيئات في الضفة الغربية، بعد ثلاثين عاماً تحت حكم السلطة الفلسطينية المتحالفة مع النُّخب المرتبطة عضوياً بإسرائيل. هذه الجماهير لا يكفيها نداء وخطاب لكي تنخرط في معركة مع إسرائيل، وبأن الانتماء الأيديولوجي أو الوازع الديني والوطني لا يكفي بحدّ ذاته لدفع الجماهير إلى خيارات متناقضة مع مصالحها الطبقية المباشرة، ويجعلها تقبل الدخول في حربٍ مفتوحةٍ مع إسرائيل.
اعتقدت هذه القيادة في غزّة أن “طوفان الأقصى” ليس إلا المرحلة الموضوعية التالية لـ”انتفاضة 2021″، غير آخذة بالاعتبار أن النُّخب والجماهير في الضفة والداخل، التي ثارت في انتفاضة الشيخ جرّاح من أجل هدفٍ سياسي محدّد، وفي إطار زمني، وأفق مرئي، مثل وقف الاستيطان في القدس أو الاقتحامات للمسجد الأقصى، هي غير قادرة حتى على تخيّل أو استيعاب أن يطلب منها أن تدخل في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، مثل ما طلبه بيان محمد الضيف من الفلسطينيين. فمنذ تلك اللحظة، وحتى بدء حرب الإبادة، وحديث الجميع في الضفة والداخل، يتمحور عن الهلع من “الكلفة الباهظة” التي ستدفعها غزّة بعد “طوفان الأقصى”، من دون أيّ نية للانخراط في جهد فعلي لتقليل هذه الكلفة، ورغم علم الجميع بأن تكلفة المقاومة والانخراط أقلّ من كلفة الهزيمة الشاملة المقبلة، ومشروع التهجير الذي ينتظر على الأبواب.
هل هذه النُّخب ومن يرتبط بها اقتصادياً واجتماعياً عميان ولا يستطيعون رؤية خطوات المشروع الصهيوني المقبل؟… لا، التواطؤ منذ البداية على التسامح وقبول هذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي القائم في الضفة المليء بالتناقضات، والمعتمد بشكل رئيس على الشراكة مع المستوطنين هو ما أوصل إلى هذا الواقع اليوم، الذي يعكس قبولاً مسبقاً من المشاركين فيه منذ البداية، بحقيقة أن وجودهم مؤقت، وأن المستقبل للمستوطنين. والهلع الذي أصابهم، خوفٌ من أن تتعثّر عملية ترتيب جهوزية هؤلاء لنقل أموالهم خارج فلسطين وقبول مشاريع التهجير. فما هو المعنى الحقيقي لشراكة مع مستوطن، هدفه بحكم الاسم والتعريف طردك من أرضك والاستيطان فيها؟ إلا إذا كنت تتأمّل إعادة إنتاج “روابط القرى” كي تمنح نفسك بعض الوقت لتجميع أرباح آنية وتحويلها إلى الخارج؟ عامان ونحن نرى أمامنا هذه المكوّنات العابرة للطبقات والتقسيمات المناطقية في الضفة وهي ترتّب أوضاعها القانونية في دول أخرى، والحصول على جنسياتٍ أجنبية، استعداداً للهروب الكبير. أصحاب معامل، وشركات، ورؤوس أموال، إلى جانب قيادات سلطة “أوسلو” ومنظّمات المجتمع المدني، وكلّ من يستطيع أن يؤمّن وجوده المادي خارج الضفة الغربية يقوم بذلك بالتوازي مع الصراخ لنزع السلاح، والوقوف صفّاً واحداً إمّا بالدعم المباشر لتحرّكات أجهزة التنسيق الأمني ضدّ جيوب العمل الحزبي المقاوم في نابلس وجنين وطولكرم، أو بالتواطؤ الكامل بالصمت عن اعتقال آلاف الحزبيين في الضفة الغربية كلّ يوم.
تمترس الكلّ اليوم حول عنوان نزع السلاح يعني ضمنياً الاعتراف لإسرائيل بأننا لا نستحق أن نكون أحراراً
تمترس هذا الكلّ اليوم حول عنوان “نزع السلاح” يعني ضمنياً الاعتراف لإسرائيل بأننا لا نستحقّ أن نكون أحراراً. هو طلبٌ يعرف كلّ من يتشبّث به أن هدفه أن تحصل إسرائيل على ما لم تحصل عليه بكلّ وحشية جيشها، وهو اعتراف بقتل الروح الفلسطينية التوّاقة إلى الحرية، والقبول بأن الخيار الحتمي الوحيد أمام الفلسطينيين الموت أو التهجير.
كان “الطوفان” قفزةً كبيرةً نحو مواجهة بدأت بالتدحرج، ووصلت بعد التخاذل والخيانة إلى تحقيق الحلم الصهيوني الذي تملّك كلّ رؤساء وزراء إسرائيل “أن تُمسَح غزّة” أو “يبتلعها البحر”. وما عملية ترسيخ مطلب نزع السلاح، سواء بمعناه الرمزي أو الفعلي، وتحويله المشروع الرئيس للفلسطينيين، إلا استمرارٌ لهذه النُّخب في أداء دورها الحقيقي في نهج الاستسلام التاريخي الذي بدأت به، وتصفية ما تبقّى من الوجود الفلسطيني، الذي مثّل بمشروعه الوطني والعربي والأممي حلماً حقيقياً وأملاً لشعوبنا بالانتصار على وحشية الإمبريالية وسطوتها وأدواتها، وهؤلاء اتخذوا قرارهم، منذ فترة طويلة، أنهم ليسوا على جانبنا من الصراع، بل هم بكلّ تأكيد يسعون أن يكونوا في الجانب الآخر منه.
المصدر: العربي الجديد