الفيدرالية في سورية بين توحيد الدولة وتمزيق الشعب

سميرة المسالمة

يخطئ كثيراً من يعتقد أن سورية تواجه خطر تفكّك وحدتها الجغرافية أو فقدان السيادة على أجزاء من أراضيها، فقط. الأكثر أهمية من هذَين الخطرَين (أو مصدرهما) يتعلّق بفقدان الشعب السوري وحدته، أو هُويَّته الوطنية شعباً، مع تصعيد الصراع الهُويَّاتي الذي يكتسب معاني كيانية سياسية. في الماضي، كان الاعتقاد أن المشكلة الأساسية على هذا الصعيد تتعلّق بالمسألة الكردية، ذات الطابع الإثني، التي باتت لها تمثيلات كيانية مع قوة مليشياوية وموارد وعلاقات خارجية، لكن التطوّرات في محافظة السويداء تحديداً كشفت أن الأمر لا يتعلّق بمشكلة إثنية فقط، وإنما أيضاً بمسألة طائفية لها امتدادات خارجية مستفيدة من تنمية الصراع وتشعيبه في الداخل السوري تحت شعارات الحرية والديمقراطية ورفض الحكم الديني.
لطالما كانت البيئة الشعبية في السويداء محسوبةً على الثورة السورية، وشكّلت حالة عصيان مدني ضدّ نظام الأسد في السنوات الأخيرة من حكمه، ما جعلها جزءاً مهمّاً من خريطة الثورة، إلا أن ثمة طرفاً خارجياً، هو إسرائيل، يستثمر في الخلافات الداخلية، وينفخ فيها، حتى صارت جاهزةً للانفجار والتشظّي، لإضعاف سورية دولة ومجتمعاً، وأيضاً، لتفكيك وحدة الشعب.

الأخطر من تفكّك الجغرافيا هو فقدان الشعب السوري وحدته وهويته الوطنية

للموضوعية، لا يمكن توجيه الاتهام لأحد بعينه أنه صاحب كرة المشكلات التي تدحرجت ليعلق فيها كلّ وسخ الطائفية، ولا يوجد طرف واحد يتحمّل مسؤولية كلّ ما يجرى منذ 8 ديسمبر (2024)، أي منذ انهيار النظام وتلاشي مؤسّسات الدولة، سيّما الأمنية والعسكرية، وعندها وجدت سورية، بكلّ أطرافها ومكوّناتها وقواها السياسية والمليشياوية، نفسها إزاء تركة ثقيلة ومعقّدة للنظام البائد، الذي اشتغل خلال قرابة ستة عقود في تجريف السياسة في سورية، وتصحير المجتمع السوري، وقتل معنى المواطنة، وبتر يد المجتمع المدني. ومع ما تقدّم كلّه لا يعفي ذلك السلطة الانتقالية من المسؤولية، باعتبارها المعنية بإدارة البلاد وتنظيمها على الصعيدَين، الداخلي والخارجي، وبخاصّة بعد انتهاج مبدأ المركزية الشديدة في كلّ ما يتعلّق بالمرحلة الانتقالية الأولى، مع ملاحظة واقعية أيضاً، أن سرعة انهيار النظام، وتنوّع الفصائل وأيديولوجياتها، التي شاركت في المسير نحو دمشق، يضعفان بشكل أو بآخر ما يمكن تسميته بـ”القرار المركزي” للسلطة الانتقالية، ما يجعل احتمالات الانفلات الأمني كبيرةً وواسعةَ التمدّد الجغرافي.
مع ذلك، تتحمّل مختلف الأطراف والمكوّنات السورية بعضاً من المسؤولية، كلّ بقدر إمكاناته، وبقدر تكيّفه مع الوضع، أو بقدر طموحاته بعد التحوّل السوري، وهذا يعني أن القوى السياسية والمليشياوية، سواء في شمال شرقي سورية (قوات سوريا الديمقراطية) أو في الجنوب، مع قيادة روحية تتمثّل في الشيخ حكمت الهجري والمجلس العسكري، تتحمّل مسؤولية انتهاج سياسة استفزاز للقيادة الانتقالية، والتهديد بخطر الانقسام تحت حماية دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو التفكيك، تحت شعارات الفيدرالية، التي تعني الحفاظ على سلطة الأمر الواقع. فالتأسيس لدولة لا مركزية موحّدة يخالف طرح صيغة الفيدرالية على أساس هُويَّاتي (طائفي أو إثني)، أي تمزيق الشعب السوري، وهو أمر يتناقض مع معظم الصيغ الفيدرالية في العالم، التي تتأسّس على معايير جغرافية، وأيضاً لأنه يتناقض مع حقيقة أن الصيغ الفيدرالية تُبنى على أساس دولة مواطنين، أحرار ومتساوين، ودولة يحكمها دستور وقوانين، وليس بناء على مكوّنات هُويَّاتية، إثنية أو طائفية أو عشائرية. المشكلة أن أصحاب الأطروحات الهُويَّاتية والإثنية يقتلون معنيي الدولة والمواطنة، وفوق ذلك يرفعون شعارات الدولة المدنية التي تعني لا دينية ولا عسكرية، بغرض “إفحام” السلطة الحالية المتهمة بمرجعيتها الدينية، في وقتٍ ينادون بدولة طائفية على أساس ديني أو قومي، ما يبدّد ادّعاءات الرغبة في دولة حكمها ديمقراطي لا طائفي وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، الذي أعيد إلى الحياة بعد موات نحو عشر سنوات (من يوم مولده).

بناء دولة المواطنة يتطلّب توحيد القوات الأمنية وضبط الفصائلية بكل أشكالها

ومن المفيد التذكير بأن حقّ المواطنة مطلب لكلّ السوريين، لا تختصّ به محافظة من دون أخرى، واختلافنا حول الطرق التي تنتهجها مجموعات تحت ستار المطالبة به، لا يعني التخلّي عنه، كما أن إدانة مطالب التدخّل الإسرائيلي من بعض المجموعات في السويداء لا تنفي أو تقلّل من الاعتزاز بالدور الوطني والتاريخي لأهلنا في تلك المحافظة، ورفض الانتهاكات والممارسات التعسفية كلّها في حقّ المدنيين، وهذا يتطلّب بالمثل رفض مصادرة رأي شعبنا في السويداء لصالح طرف معيّن، بات لا يخفي دعوته إلى تدخّل إسرائيل، بل والطلب منها احتلال محافظته.
في المقابل، يفترض هذا من القيادة الانتقالية في سورية تأكيد التزامها بناء الدولة، دولة مؤسّسات وقانون لكلّ السوريين، والعودة إلى طاولة الحوار لبناء هيكلية العقد الاجتماعي الذي يحقّق الحريات والمشاركة العادلة للمكوّنات، ويمنع تفتّت الدولة وتشرذمها، وتالياً توحيد القوات الأمنية وضبطها وتأهيلها، ووضع حدّ لظاهرة الفصائلية بكلّ تسمياتها ومرجعياتها، وكذلك الفزعات الفوضوية، لأن هذه الظواهر تتناقض مع إقامة دولة المواطنة التي حلم بها وناضل من أجلها كلُّ السوريين.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى