
يترافق استعداد إيران للعودة إلى المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، بخطاب عالي النبرة يحمل التهديد والوعيد، وليس لإسرائيل وحدها، بل للولايات المتحدة ورئيسها أيضاً. وقد كان هذا الخطاب معتاداً قبل الحرب الأخيرة، وكان موجهاً إلى الداخل والأذرع الإيرانية في المنطقة. وكان من المفترض أن تخفض، ولو قليلاً، إثر نتائج الحرب من نبرة الخطاب. لكن يبدو أن الملالي يصدقون فعلاً أن نظامهم يتقاسم “الانتصار” مع الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تضعان إيران أمام خيار من إثنين: المفاوضات أو تجدد الحرب. وفي تشنج خطابهم هذا، وكما كل أذرعهم المتهالكة في المنطقة، يقدم الملالي خدمة كبيرة لإسرائيل، تسهل عليها تبرير تجديد حربها على إيران، وليس من دون الولايات المتحدة. وإذا كان الرأي العالم قد أدان بمعظمه مبادرة إسرائيل بشن الحرب على دولة مستقلة ذات سيادة، من المشكوك فيه أن تحصل هذه الإدانة في جولتها الثانية، بعد خطاب الملالي الذي وزع التهديدات في كل الاتجاهات. وحين تصل تهديدات الإيرانيين إلى ترامب في منتجعه في فلوريدا، سيجعل هذا من الصعب على معظم من أدان الجولة الأولى أن يكرر إدانته للثانية.
الموقع الإسرائيلي Detaly الناطق بالروسية نشر في 14 الجاري نصاً عن التهديدات الإيرانية للولايات المتحدة وإسرائيل، إثر الكشف عن محاولة إسرائيل اغتيال الرئيس بزشكيان أثناء الحرب. وقد وضع الموقع عنواناً ساخراً للنص “حين سيكون ترامب في منتجعه (في فلوريدا) يأخذ حمام شمس، ستحط في سرته طائرة مسيرة” إيرانية.
نقل الموقع عن كبير مستشاري خامنئي علي لاريجاني، تعليقه على محاولة الاغتيال بالقول إنه لا يمكن التسامح مع هذا، وسترد إيران حتمًا. وبما أن دول الاتحاد الأوروبي قد دعمت الهجوم الإسرائيلي، وتطالب الآن إيران بوقف تخصيب اليورانيوم، فقد تصبح هي الأخرى هدفًا للانتقام في المستقبل.
يشير الموقع إلى أن لاريجاني لم يكتف بتهديد أوروبا. فقد سبق له أن لمح منذ أيام إلى أن الرئيس الأميركي قد يتعرض إلى هجوم طائرة مسيرة أثناء قضاء إجازته في منتجعه في فلوريدا. وللزيادة في السخرية، نقل الموقع كلام لاريجاني بحرفيته، حسب تأكيده. رأى المستشار أن ترامب “فعل شيئاً ما” لدعم إسرائيل، ولذلك “لم يعد بإمكانه الاستمتاع بأشعة الشمس براحة البال كما كان يفعل في منتجعه في فلوريدا”. وقال إنه بينما يكون ترامب “مستلقياً على ظهره تحت أشعة الشمس، قد تصيبه طائرة صغيرة من دون طيار في سرته. نعم، الأمر بهذه البساطة”.
وكما يمكن للمسيرة الإيرانية أن تستهدف ترامب في فلوريدا “بهذه البساطة”، كذلك بالبساطة نفسها يحذر لاريجاني الولايات المتحدة وإسرائيل من مخاطر هجوم جديد على إيران. ويقول إن إسرائيل والولايات المتحدة “تعرفان”، في حال شنتا هجوماً من جديد، فإن “ردنا سيكون أكثر قسوة وغير متوقع”.
اعترف لاريجاني بالشائع والمتداول من أن إيران فوجئت بهجوم إسرائيل في 13 حزيران/يونيو، “ولم نتوقع استخدام هذه التكنولوجيا”. ويكرر الشائع أيضاً بأن الإسرائيليين قد زرعوا العديد من العملاء في إيران: “لكن هذا لن يتكرر، فقد اعتُقل بالفعل أكثر من 700 إيراني للاشتباه في تعاونهم مع إسرائيل”.
البوليتولوغ الروسي المعارض عباس غالياموف الذي كان يكتب خطابات بوتين، حين كان الأخير رئيساً للوزراء، نشر في 13 الجاري على موقعه في الفايسبوك نصاً رأى فيه أن القيادة الإيرانية، وكأنها وضعت نصب عينيها مهمة خلق الظروف التي تسمح لإسرائيل بتجديد العمليات الحربية. فقد ألمح مستشار رئيس البرلمان الإيراني قبل أيام إلى أن لدى طهران خططاً لشن ضربة نووية على القدس. وأمس تحدث أحد ممثلي آل لاريجاني المتنفذين، محمد لاريجاني، معلناً أن الأوروبيين يجب أن يكونوا مستعدين لهجوم بطائرات إيرانية من دون طيار. مثل هذه التصريحات هي حلم أصبح حقيقة بالنسبة لـ”صقور” إسرائيل، الذين سيجدون الآن أنه من الأسهل عليهم أن يشرحوا للأوروبيين المذهولين أن النظام الإيراني ليس سوياً، ويجب القضاء عليه.
لدى عباس غالياموف رأي لافت في تحليل سبب إدلاء لاريجاني بمثل هذا التصريح، وهو الذي ينتمي إلى عائلة محافظة ومتنفذة، لكنها لم تكن يوماً من أصحاب النهج المتشدد، بما في ذلك، موقفها من الصفقة النووية السابقة الذي كان يتعذر تمييزه عن موقف الإصلاحيين. لكن العائلة فقدت الكثير من نفوذها في السنوات الأخيرة، ومن المحتمل أنها تتصرف وفق مبدأ”كلما ساء الأمر، كلما كان أفضل”. ويفترض أنه في زمن يسهل فيه خلق المشاكل للنظام، قد تنشئ العائلة منصة تفاوض وتنتظر إلى أن يأتوا إليها باقتراح عدم تأزيم الوضع أكثر، ويمنحوها فرصة العودة إلى اللعبة الكبرى. وقد تكون عائلة لاريجاني قررت تقديم نفسها كحليفة للمتشددين المحبطين، على أمل أن يستعيد ممثل العائلة صادق لاريجاني مكانته، بعد أن كان يعتبر أحد المرشحين لخلافة المرشد الأعلى.
ويضيف غالياموف بالقول، إن أسباب تصريح محمد لاريجاني قد تكون مختلفة جداً، لكن النتيجة النهائية قد تكون محزنة للغاية بالنسبة لآيات الله. وقد يُلمّح قادة العالم، الذين يشعرون بالإحباط من سلوك الملالي، إلى نتنياهو بأنهم لا يعارضون اتخاذ إجراءات حاسمة.
تشكل مسألة انتفاض الشارع الإيراني ضد نظام الملالي، احد أبرز الأسئلة التي رافقت الحرب الأخيرة، وكان تحتل حيزاً كبيراً في الحديث عن مصير نظام الملالي المتهالك. لم يكن يمر عام تقريباً إلا وتشهد شوارع المدن الإيرانية صدامات بين الإيرانيين من مختلف الشرائح مع أجهزة النظام القمعية.
تناول غالياموف هذه المسألة في النص الثاني الذي نشره في اليوم عينه. وأشار إلى أن الاحتجاجات الحاشدة كانت تجري سنوياً في إيران بين العامين 2016 و 2022. وكان قمع هذه التحركات يشتد سنة تلو الأخرى، لكن الإيرانيين كانوا يخرجون مجدداً إلى الشوارع. ويعتقد أن ديمومة الاحتجاجات ضد النظام كانت مرتبطة بتوسعها أفقياً وعامودياً، من العاصمة والمدن وأوساط النخب نحو الأطراف وأوساط الفئات الدنيا. ويرى أن أولئك الذين أصيبوا بالإحباط بسبب هزيمة الأمس، بوسعهم أن يبقوا في منازلهم، ويحل مكانهم مواطنون جدد لم يسبق لهم أن شاركوا بالاحتجاجات.
لكن بعد أن انضمت عملياً كل شرائح المجتمع الإيراني تقريباً إلى الاحتجاجات التي اندلعت إثر مقتل الصبية الكردية مهسا أميني، على يد شرطة الأخلاق في العام 2022، تم قمع الاحتجاجات وغرقت بالصمت. والآن يعم الشعور بالعجز كل من يقيم في إيران، ويشبه الوضع ذلك الذي ساد بيلوروسيا بعد قمع الانتفاضة في العام 2020. وإلى متى سيقيم الشلل يصعب التنبؤ بذلك، ويتعلق الأمر بخصوصية اللحظة. مستوى كثافة الأجندة السياسية، ما هي المسألة المطروحة على الأجندة اليومية المهيمنة، داخلية أم خارجية.
ولمزيد من الوضوح في حال الاحتجاجات الإيرانية المصابة بالشلل حالياً، يسوق غالياموف مثالًا من تاريخ الثورة الروسية الأولى 1905 – 1907، وكيف تدرجت كثافة المشاركة في الثورة من بضعة ملايين إلى بضع مئات الألوف، ثم عادت وانطلقت بزخم في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى.
ويضيف بأن الوقت كفيل بمداواة أي تروما، بما فيها تلك الناتجة عن الهزيمة، أي أن الوقت يعمل لصالح الثورة. والوقت لا يمكن وقفه، حتى من قبل أعتى أنظمة الحكم الاستبدادية.
المصدر: المدن