
لعل البعض لا يدرك معنى التعامل مع القضية الفلسطينية، مع فلسطين الجغرافيا والمقدسات، مع فلسطين الشعب والمقاومة، مع فلسطين المكانة والموقع.
إنها فلسطين، ترفع من ينتمي إليها ويعمل على حمايتها، ويلتزم حقوقها إلى أعلى عليين، وتسقط وتهوي بمن يتلاعب بها، ويأخذها مطية لأغراضه، ويفرط بها إلى الدرك الأسفل.
لله درها، هي كذلك عبر تاريخنا كله، وبالتحديد منذ أن تسلم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس، ومنذ أن باتت هذا الأرض المقدسة “بالعهدة العمرية” أمانة في أعناق العرب والمسلمين، فصارت هي بذاتها معيارا للموقف الصحيح تجاه كل قائد، وكل نظام، وكل قوة، وكل فكر.
ولأن فلسطين صارت هدف كل عدوان غربي يريد أمتنا ووجودنا ومستقبلنا وقيمنا، صار الموقف من فلسطين هو الفيصل في كل موقف، صار معيارا للصدق في مواجهة أي قوة غزو أو احتلال، وصار معيارا للصدق في أي دعوة للجهاد والتصدي، وصار معيارا للصدق في أي نداء للوحدة والاجتماع.
ما من قائد من قادة هذه الأمة أخذ مكانة مميزة في صفحات تاريخها إلا عبر فلسطين، وعبر الموقف من فلسطين، ومن عجيب هذه القضية وعظمتها أن ضمير الأمة ووجدانها لا يقيس مكانة هذا القائد أو ذاك بمقدار ما يحققه من نصر لأجل فلسطين، وإنما بما يقوم به ـ صادقا وأمينا ـ من جهد لاستعادة فلسطين وتحريرها، أما النصر، تحقيق النصر على قوى العدوان، فهذا شأن آخر، وله ميزان آخر، قد يتحقق لهذا القائد أو ذاك، وقد لا يتحقق، وقد يتحقق في هذه المرحلة أو تلك، وقد لا يتحقق. لكن كان للصادقين منهم دوما مكانتهم في تاريخ أمتهم وعقلها ووجدانها.
والذي يراجع سيرة الحروب الصليبية وغزو الفرنجة لفلسطين، وجهود نور الدين الزنكي، وصلاح الدين الأيوبي، يدرك هذا المعنى الذي نشير إليه.
كذلك الذي يراجع معارك مواجهة العدو الصهيوني الرسمية والشعبية، المسلحة وغير المسلحة، في العصر الحديث من زمن عز الدين القسام إلى زمن جمال عبد الناصر وصولا الى هجوم السابع من أكتوبر حيث زمن يحيى السنوار ورفاقه، ومرورا بكل الانتفاضات الشعبية، يدرك المعنى ذاته.
إنها فلسطين التي أعطت كل تلك الثورات والحركات والقادة مكانتهم في ضمير وذاكرة ووجدان أمتهم، من أخلص منهم وصدق رفعته وجعلته في مكان لا يطاوله أحد، ومن تساقط وهوى، فقد حكم على نفسه، ومن تعثر وهو صادق مدت له يدها لتقيمه من جديد.
هذه فلسطين، ما من قضية أخرى وصلت إلى مكانتها وقيمتها، هي الراية، وهي المعيار، من اقترب منها بصدق ارتفع وعلا، ومن تلاعب فيها وقامر تكشف وهوى.
اختزنت في ذاتها كل معاني وتجليات القيم التي تسعى إليها الإنسانية بمختلف مجتمعاتها وتطلعاتها: الوطنية والقومية والإنسانية، الدينية الروحية والعقدية.
من أراد أن يقاوم العنصرية ويتصدى لها ففلسطين هي الميدان.
ومن أراد الدفاع عن حقوق الانسان وقيم الإنسانية ففلسطين هي المقياس.
ومن أراد أن يحقق الأمن والسلام في العالم ففلسطين هي المدخل اللازم.
ومن أراد أن يملك الاستقلالية الحقيقية والتحرر من قيود التبعية للغرب المتوحش ففلسطين هي المعيار.
ومن أراد من العرب أن يحفظ للأمة أمنها القومي، ويحفظ لبلده أمنه الوطني، ويدافع عن العروبة والإسلام، فالالتزام بفلسطين هو السبيل.
ومن أراد أن يختبر صدق إيمانه الديني، مسلما كان أم مسيحيا، أو حتى يهوديا، فالموقف من فلسطين، ومن الكيان الصهيوني ومشروعه، هو موقع الاختبار الذي لا يخيب.
كل حديث عن تنمية ونهضة وعزة لهذا البلد العربي أو ذاك، هو مجرد هراء إن لم ينطلق من الالتزام بفلسطين: الأرض، والشعب، والتاريخ، والمستقبل.
كثير منا يطيب له الحديث عن “مشروع نهوض عربي” تحتاجه الأمة، بعدما زوت مشاريع النهوض التي شهدتها أمتنا في القرنين الماضيين، لكن هذا الحديث يصبح أقرب إلى الثرثرة ما لم تكن فلسطين في صلبه.
كل حديث عن وحدة عربية أيا كان شكلها وطبيعتها يصبح إهدارا للوقت، وتغييبا متعمد للاتجاه، إن لم تكن فلسطين هي البوصلة، وهي الجهة المعتمدة.
كل حديث يقود إلى التفريط بفلسطين، والتعاون مع العدو الصهيوني، وتحويل هذا الوجود الغاصب العنصري إلى وجود طبيعي تحت أي ذريعة وخلف أي شعار، حديث خداع ومخاتله.
هنا في هذا المقام تستدعي الذاكرة ذلك الموقف الخالد للعالم المجاهد سلطان العلماء “العز بن عبد السلام” رحمه الله، حينما رأى تلكؤ بعض المماليك والناس في الخروج لمواجهة التتار، بدعاوى مختلفة شاعت بينهم في ذلك الوقت، حيث وقف مخاطبا عموم الناس ” أيها الناس، من رآني منكم على الجانب الآخر ـ جانب التتار ـ والقرآن فوق رأسي، فليرمني بسهمه”.
التزامنا بفلسطين وما نقدمه لها ليس منة، ولا كرما، ولا فائض قوة أو مال، وإنما هو دفاع عن النفس، ودفاع عن المستقبل، ودفاع الدين، ودفاع عن الحرية والتقدم.
قد يسأل البعض، لمن يتوجه هذا الخطاب؟
ولماذا الآن؟
والتساؤل بشقيه مبرر وجدي.
أما لمن يتوجه هذا الخطاب عن فلسطين، فإنه يتوجه إلى كل الناس، كل المسلمين والعرب، كل المشتغلين في رحاب التوجيه والفكر والإعلام. لكنه يخص أكثر أهل بلاد الشام، وفلسطين منها في القلب، لأنهم الأولى بالحفاظ عليها، ولأنهم الحزام المحيط بها الحامي لها، ولأن الرضا بضياعها هو المدخل لضياع كل شبر من هذه البلاد، فلا يبقى هناك وجود أو حرمة للجولان السورية المحتلة، ولا يبقى هناك القدرة ولا الجدوى للحديث عن وحدة الجغرافيا السورية، بدءا من جبل العرب وحوران، إلى العاصمة دمشق، وحتى القامشلي، بل إن التفريط بفلسطين، وفي خاصرتها الجولان السورية المحتلة، هو تفريط بالوجود السوري كله، ومن هنا يأتي اختصاص أهل بلاد الشام بهذا الحديث عن غيرهم، دون أن يكون في هذا الاختصاص إعفاء لأحد من العرب، بل والمسلمين أيضا من المسؤولية تجاه فلسطين.
نحن لا نخشى من موقف شعبي يفرط بالتراب الوطني في مختلف أنحاء بلاد الشام، وفي القلب منها فلسطين، فالموقف الشعبي هو موقف محصن راسخ وقويم، لكن هذا الموقف الشعبي لا يظهر إلا عبر نظام ديموقراطي حقيقي، وعبر ممثلين لهذا الشعب في مجلس تشريعي منتخب أصيل.
أما لماذا هذ الحديث الآن، فلأن وسائط التواصل الاجتماعي تعج بالحديث عن محادثات تجري في السر بين القيادة السورية، أو أطراف منها، وبين ممثلين عن الكيان الصهيوني، بوساطات عربية عديدة، وتزعم هذه أن الهدف هو التطبيع مع العدو حسب سيناريوهات متعددة تصب كلها في مصلحة الكيان ومشروعه.
وواضح أن هذه الأحاديث تعبر عن رغائب وتطلعات العدو نفسه، وهو يطلقها عبر ذبابه الالكتروني، وعبر أنصاره، وهم كثر، لإضعاف النفسية السورية الرافضة لأي تعامل مع هذا العدو، وللتشكيك بتحركات القيادة السورية الرامية لإخراج سوريا من الواقع المتردي الذي دفعه إليه النظام البائد، وللإيقاع بين هذه القيادة وبين الشارع الوطني، وللترويج لفكرة مسمومة تقول: إن بمقدور هذه القيادة وفي هذه المرحلة الانتقالية، وبعيدا عن وجود المجلس التشريعي المنتخب، أن تبرم اتفاقات ليست بطبيعتها من صلاحيات المراحل الانتقالية وذلك لتجاوز أي رفض شعبي لها.
ولأن القيادة السورية منذ أن تم كنس النظام الأسدي البائد اعتمدت قاصدة ـ ولأسباب خاصة تقدرها ـ الغموض في تحركها إزاء معظم الملفات الخارجية والداخلية فإن هذه السياسة فتحت المجال واسعا لذلك الذباب حتى يفعل فعله.
لذلك صار واجبا أن نقول ونكتب وننبه إلى ما يجب أن يكون واضحا جليا لا خلاف عليه، ولا توسط فيه، ولا مساومة بشأنه.
وصار واجبا على كل مواطن سوري كلٌ بما يملك ويقدر، أن يعلن وقوفه إلى جانب كل تحرك أو قول أو فعل يستهدف الحفاظ على فلسطين: شعبا وأرضا ومقدسات وتاريخا ومستقبلا، وبالتالي على الجولان المحتل، وأن يعتبر ذلك هو المعيار في الحكم على الأشخاص، والأشياء، والبرامج، والقيم.
وبهذا الموقف الواضح المدعوم شعبيا، ومن قوى الوعي الاجتماعي، نساعد القيادة والقوى السياسية السورية الحاكمة على مواجهة كل الضغوط التي تتعرض لها بهذا الشأن وهي ضغوط قوية ومتشعبة، فلا تقع في مطب قاتل يذهب بها لتصبح في المكان نفسه الذي يريد عدو الأمة، واستنادا إلى هذا الموقف الواضح، وهذه الضغوط المقدرة يصبح مطلوبا من هذه القيادة أن تحصن نفسها ومواقفها بحقيقة أنها قيادة لمرحلة انتقالية، وأنها لا تملك الحق بتوقيع أي اتفاق يمس الوطن السوري، أو يمس بلاد الشام، أو يمس الموقف من الحق الفلسطيني، فمثل هذا الحق لا يملكه إلا الشعب السوري نفسه، ولا يُعبَر عنه إلا من خلال مجلس تشريعي منتخب، ودستور دائم يعطي الشرعية لعمل السلطات المختلفة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
نحن جميعا مطالبون بإعلان هذا الموقف، وبتذكير الجميع أن هذه هي فلسطين، وهذه هي الجولان، وهذا هو الكيان الصهيوني، باعتباره تجسيدا للمشروع الغربي تجاه أمتنا، ومستقبلها، وثرواتها، وقيمها.
ونُذكر أيضا بضرورة بناء جيشنا الوطني، بناء شعبيا حقيقيا قائما على قاعدة المواطنة، ليصبح قادرا على حماية وطنه، وشعبه، وحماية تقدمه، واستقراره. والمساهمة في النضال الشامل لأمته العربية.
8 / 7 / 2025