
شنّت إسرائيل فجر يوم 13 يونيو/ حزيران 2025، هجمات جوّية مفاجئة، طاولت عشرات الأهداف داخل إيران، في إطار عملية سمّتها “الأسد الصاعد”. واستهدفت الضربات الإسرائيلية مواقع نووية رئيسة، ومنشآت وقيادات عسكرية، وعلماء متخصّصين في الطاقة النووية، وكان الهدف المُعلَن من العملية وقف البرنامجَين النووي والصاروخي الإيرانيَّين. وجاء التصعيد بعد فترة طويلة من التوترات المتزايدة بين البلدَين، خصوصاً منذ “7 أكتوبر” (2023)، وما تبعها من حرب إسرائيلية على غزّة، شهدت احتدام الصراع بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية المدعومة من إيران مثل حركة حماس وحزب الله. وتبادل الطرفان، خلال عام 2024، ضربات عسكرية، أبرزها الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قيادات بارزة موالية لإيران، وردّت إيران بهجماتٍ صاروخيةٍ محدودة على إسرائيل.
وحصل العدوان الإسرائيلي في يونيو الماضي، قبيل جولة مفاوضات كانت مقرّرة بين إيران والولايات المتحدة في مسقط، وبعد انتهاء مهلة الشهرَين التي منحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لطهران للتوصّل إلى اتفاق حول برنامجها النووي. واعتبرت إسرائيل فشل المفاوضات، وتزايد قدرات إيران النووية والصاروخية “تهديداً وجودياً” لها، وبرّرت بذلك حملتها العسكرية المباغتة، المكثّفة على طهران. وردّت إيران مساء اليوم نفسه بإطلاق عملية “الوعد الصادق 3″، مستخدمةً صواريخَ باليستية وطائرات مسيّرة استهدفت مواقع عسكرية واستخباراتية وسكنية في إسرائيل، ليتحوّل الصراع مواجهةً عسكريةً مباشرة وواسعة النطاق في سماء البلدَين، للمرّة الأولى منذ الثورة الإيرانية عام 1979. وبعد 12 يوماً، وضعت الحرب أوزارها، مخلّفةً عشرات القتلى الإسرائيليين، وزهاء ألف قتيل من الإيرانيين، وجرحى ومصابين من الجانبَين. وكشفت الحرب عدّة معطيات دالّة.
لم تكن المواجهة بين الكيان الصهيوني وإسرائيل اشتباكاً برّياً مباشراً بين جيشين، بل كانت حرب أجواء، وتقنيات عابرة للحدود
سياسياً، بدا جليّاً أنّ بنيامين نتنياهو استثمر في الحرب ليستعيد شعبيته في الداخل الإسرائيلي، وليغطّي فشله في استباق عملية طوفان الأقصى، وليظهر في صورة أمير حرب قادر على تهديد قوة إقليمية صاعدة، وتحجيم نفوذها في المنطقة، ووضع حدّ لتقدّمها الثابت والحثيث في مجال الطاقة النووية. وليس المُراد تأمين إسرائيل فحسب. بل القصد إرباك النظام الحاكم في إيران، ومحاولة إعادة تشكيل الشرق الأوسط على الطريقة التي يريدها نتنياهو، وتضمن استفراد إسرائيل بالقوة، والقدرة على المبادرة في المنطقة، وتأكيد استئثاره برئاسة الوزراء في دولة الاحتلال، وتعزيز حظوظه وحزبه في الفوز بانتخابات الكنيست المقبلة، وتأمين إفلاته من الملاحقات القضائية على خلفية إخلالاتٍ شتّى حفّت بالحرب الدامية أخيراً على قطاع غزّة. واغتنمت المنظومة الحاكمة في إيران الحرب لإعلاء سردية المظلومية، والقول إنها من ضحايا غطرسة إسرائيل في المنطقة وانتهاكاتها المتكرّرة القانون الدولي، مركّزة في حقّها المشروع في تطوير منشآتها النووية لأغراض سلمية، مؤكّدة أنّها لم تُشعل فتيل الحرب، بل إنّ تل أبيب هي مَن بادرت بالاعتداء عليها. ورامت تلك السردية إشهاد العالم على سياسات إسرائيل العدوانية، وتحميلها عواقب الحرب وتبعاتها، وكسب رأي عام في الداخل والخارج مضادّ للعدوان، ومساند على كيفٍ ما لإيران في محنتها. ونجح هذا الخطاب السياسي ـ الدعائي في ترسيخ صورة إسرائيل دولةً مارقةً، وفي عطف القلوب في الداخل نحو النظام الحاكم في إيران، وتحشيد طيفٍ معتبرٍ من الاجتماع الإسلامي للوقوف إلى جانب طهران. لكنّ ذلك لا يحجُب أن إيران غذّت، عقوداً، أسباب التوتر في المنطقة من خلال خطابها المتشنج ضدّ قوى “الاستكبار العالمي” وأذرعها المسلّحة وسياساتها التدخلية في أكثر من بلد عربي. ولم تكن تبالي كثيراً بالمواثيق الحقوقية والقوانين الدولية. بل هاجسها الأساس، بحسب مراقبين، منازعة تل أبيب وواشنطن على مناطق نفوذ في الشرق الأوسط. وبناء عليه، قد تلبّس العسكري بالسياسي في الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية أخيراً.
من الناحية الاستخبارية، بدا واضحاً أنّ إسرائيل استعدّت لهذه الحرب من زمن بعيد، ونجحت في زرع مئات العملاء في الداخل الإيراني، على نحوٍ مكّنها من جمع كمّ هائل من المعلومات الدقيقة والتفصيلية عن شخصياتٍ ومؤسّساتٍ حيوية إيرانية. وقد أقرّت السلطات الإيرانية باعتقال 700 جاسوس، قدّموا معلومات خطيرة للجيش الإسرائيلي، وهرّبوا مسيّرات مفخّخة وركّبوها ووجّهوها نحو أهداف داخل إيران، وصوّروا تحرّكات للقوات المسلّحة الإيرانية وأرسلوها إلى غرف العمليات الإسرائيلية. كما زرعوا قنابل لاصقة في سيّارات مسؤولين. وأدّى هذا الجهد الاستخباري، الشبكي، المخادع والمكثّف، إلى توسيع بنك الأهداف الإسرائيلية، وتنفيذ اغتيالات مباشرة لعلماء بارزين وشخصيات عسكرية قيادية، وتوجيه ضربات دقيقة للمنشآت النووية والحيوية في البلاد. كما مكّن الاختراق السيبراني المعلوماتي، وتوظيف الذكاء الاصطناعي، إسرائيل من تعطيل الدفاعات الجوية الإيرانية إلى حدّ معتبر، ومنح إسرائيل حرّية حركة جوية في سماء إيران، ما ساعدها على القيام بعدّة عمليات في العمق الإيراني. في المقابل، كشفت إحداثيات الحرب أنّ إيران لم تستعدّ قبلاً لحرب واسعة مع إسرائيل، وكانت تعوّل على مناوشتها من خلال وكلاء لها في المنطقة. وبدا بنك أهدافها محدوداً، وليس لها عملاء كثيرون داخل تل أبيب، حتّى أنّها لم تنجح في استهداف شخصيات عسكرية وازنة في الداخل الإسرائيلي.
ضربت صواريخ إيران التي وصلت لملاجئ محصّنة، مخلّفةً قتلى وجرحى، سردية أنّ “إسرائيل دولة آمنة“
عسكرياً، كشف النزاع المسلّح أخيراً بين إيران وإسرائيل حرباً غير تقليدية، تمّت من بُعد، وتوسّلت بوسائل رقمية متطوّرة، وتقنيات عالية (مسيّرات، صواريخ ذكية، هجمات سيبرانية، طائرات شبحية…)، فالمواجهة بين الطرفَين لم تكن اشتباكاً برّياً مباشراً بين عساكر، بل كانت حرب أجواء، وتقنيات عابرة للحدود، وكشفت الحرب أنّ سلاح الجو نقطة قوّة إسرائيل الأساسية، فلديها مئات الطائرات القاذفة والمقاتلة، وأخرى للتزويد بالوقود في الجو، وعندها منظومات متطوّرة مضادّة للصواريخ، في حين تفتقر إيران إلى ترسانة جوية متطورة، ومعظم طائراتها قديمة، وأغلب دفاعاتها الجوية محلية الصنع. وقد يسّر ذلك لإسرائيل السيطرة نسبياً على سماء إيران، ومكّنها من إصابة عدّة أهداف بدقّة. في المقابل، ظهر أن الصواريخ الباليستية نقطة قوّة طهران البارزة، فقد نجحت عدّة صواريخ إيرانية في اختراق منظومات ثاد، وحيس، ودرع داوود، والقبة الحديدية الإسرائيلية، وأصابت مؤسّسات حيوية، وأحدثت خسائر مادية وبشرية هائلة في تل أبيب، وحيفا، وبئر السبع، وهو ما ساهم في إنتاج حالة من توازن الردع بين الجانبَين.
اجتماعياً، وحّدت الحرب نسبياً الجبهة الداخلية الإسرائيلية حول نتنياهو، ونسي الناس إلى حين محاكمته وفشله في استرجاع الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية. لكنّ وصول صواريخ إيرانية إلى ملاجئ محصّنة، مخلّفةً قتلى وجرحى، بعث حالةً من الخوف والإحساس بعدم اليقين لدى الإسرائيليين، وضرب سردية أنّ “إسرائيل دولة آمنة”، ودفع ذلك كثيرين إلى النزوح أو مغادرة البلاد. وبدا أنّ إسرائيل لا تحتمل الأكلاف المادية والبشرية لحربٍ طويلة المدى مع جيش نظامي، وتتأثر كثيراً لإصابة مدنيين بداخلها، لما لذلك من توابع سياسية وأمنية. وأظهرت الحرب أنّ إسرائيل فشلت عملياً في تثوير الناس على النظام الحاكم في إيران، فقد أدّت الضربات إلى توحّد الإيرانيين ضدّ خطر خارجي، ورفض الإصلاحيين والمحافظين على السواء تغيير النظام عبر الاستقواء بالخارج، وعبّروا عن إنكارهم قصف المنشآت النووية وتشبثوا بحقّ بلدهم في إنتاج طاقة دفاعية سلمية، ويرجع ذلك السلوك (في جانبٍ ما) إلى اعتزازهم بقوميتهم وحضارتهم الفارسية العريقة.
لا تريد شعوب المنطقة حروباً، بل ازدهاراً وسلاماً، لا يريدهما نتنياهو
اقتصادياً، كشفت تقارير إعلامية واقتصادية إسرائيلية متواترة أن حرب الـ12 يوماً مع إيران كلّفت الاقتصاد الإسرائيلي خسائر مباشرة فادحة تُقدّر بـ12 مليار دولار، مع توقّعات بارتفاعها إلى 20 مليار دولار عند اعتبار الأضرار غير المباشرة. وتتوزّع هذه الخسائر بين النفقات العسكرية الهجومية والدفاعية، والأضرار الناتجة من الضربات الصاروخية لمؤسّسات حيوية وبُنى تحتية، وتكاليف إعادة الإعمار وتسديد تعويضات لضحايا الحرب. وفي إيران، تراجعت بورصة طهران 7.2%، ونزل الريال إلى937 ألفاً مقابل الدولار. وبلغ التضخم الشهري 2.7%، مع توقّعات ببلوغه 3.5%. وتزايدت عمليات تحويل الأموال إلى الخارج، وكشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن إيران خسرت 500 مليار دولار بسبب استهداف برنامجها النووي، الذي عملت على تطويره أربعة عقود ويزيد.
دبلوماسيّاً، أظهرت الحرب أنّ دونالد ترامب هو الرجل القوي في الشرق الأوسط، وهو من يملك مفاتيح الحرب والسلم في المنطقة. فبضوء أخضر منه اندلعت الحرب، وبأمر منه كان وقف إطلاق النار بين الجانبين. وبدا أنّ دول الخليج العربي عموماً، وقطر خصوصاً، نجحت في تفعيل دبلوماسية الطوارئ، وخفض التصعيد، بدل الاصطفاف إلى جانب على حساب آخر، وساهم ذلك في احتواء الأزمة، وضبط الحرب بسقوف سياسية.
ختاماً، الحرب شرّ محض، وليس فيها منتصر، بل الكلّ خاسر لا محالة. والثابت أنّ شعوب المنطقة لا تريد حروباً، بل ازدهاراً وسلاماً، وأماناً واستقراراً. لكن يبدو أنّ نتنياهو يريد خلاف ذلك.
المصدر: العربي الجديد