
يمثل تفجير كنيسة “مار الياس” في حي الدويلعة بدمشق يوم الأحد الفائت ٢٢ / ٦ / ٢٠٢٥، أثناء إقامة قداس الأحد جريمة ذات طبيعة خاصة لا بد من الوقوف أمامها بتمعن، وإدراك هذه المعاني، والرد عليها بما تستأهله حقا. فلهذه الجريمة أوجه عديدة فهي تمثل
**عدوانا على الدولة ذاتها،
**وعدوانا على مفهوم المواطنة
**وعدوانا على قدسية المكان
**وعدوان على عباد يؤدون شعائر دينهم
**وعدوانا على حياة الإنسان بصفته إنسانا بغض النظر عن العمر والجنس
وهذه الأوجه المتعددة المجتمعة في هذا العمل البشع المدان تجعله من حيث المفهوم متطابقا تماما مع مفهوم الدين لقاعدة “الإفساد في الأرض”. وهو بهذا الوصف أوسع من قولنا إنه عمل “إرهابي، طائفي، دموي”، وبالتالي فهو يتطلب ردا على المستوى نفسه، ردا يستهدف بالإضافة إلى معاقبة المنفذين، والمخططين، والمحرضين، اجتثاث هذا الفكر، ومن يعمل في إطاره، ويقوم عليه.
مهم جدا هذا الإلتفاف الوطني حول اخوتنا المسيحيين الذين استهدفهم هذا التفجير، لكن النظر الى هذه الجريمة /الكارثة يجب أن يكون أبعد وأشمل، إذ القصد منها ليست هذه الشريحة من السوريين، وإعادة التمعن فيما قدمنا يكشف أن القصد أبعد وأعمق من ذلك
**ممكن أن يستهدف هجوم قادم أي مكون مسيحي آخر
**ويمكن أن يستهدف الدروز، أو العلويين، أو الاسماعيليين
**ويمكن أن يستهدف الصوفيين، أو الأشاعرة
**يمكن أن يستهدف السيد رئيس الجمهورية أو أحد مساعديه، وقد اعتبر الرئيس أحمد الشرع من قبل بعض أصحاب هذه المعتقدات مارقا. كافرا
**ويمكن أن يستهدف مفتي الجمهورية باعتباره كما وصفه البعض “صوفي، أشعري” خارج عن أهل السنة والجماعة
**ويمكن، ويمكن…الخ
باب الاستهداف واسع، وما لم ينظر إلى المسألة من هذا المنظور فإن كل مواجهة تكون قاصرة.
المواجهة بجب أن تكون حاسمة وشاملة:
لا مكان في مجتمعنا لمن لا يعترف ب”الدولة”، والدولة شيء، والسلطة شيء آخر.
لا مكان في دولتنا لمن لا ينضبط بالطرق الدستورية والقانونية التي تتيحها الدولة لتحسين أدائها وضبط قوى المجتمع فيها.
لا مكان في الدولة لأي طرف يخطف منها مرجعيتها في تحديد القوانين الحاكمة للمجتمع، ومرجعيتها في تطبيق هذه القوانين.
من يعتقد نفسه فوق هذه الدولة، فليغادرها، أو ليواجهها مواجهة فاصلة لا توسط فيها.
مطلوب من السلطة الحاكمة أن تحصن المجتمع ضد هذا النوع من الإفساد، هذا النوع من الحركات التي تريد أن تخطف من الدولة وظيفتها، وأن تتصرف في المجتمع وكأنها “الحاكمة بأمر الله”.
وتحصين الدولة والمجتمع من هذا النوع من الإفساد يكون على مستويين اثنين، مترابطين ارتباطا عضويا:
**المستوى الأول: العمل على إقامة نظام سياسي واجتماعي يختزن في داخله آليات التصحيح والتقويم والتطوير
الحديث هنا لا يخص توفر قيم العدل والتقدم والحرية في النظام القائم فحسب، وإنما أيضا، بل وأساسا في توفر آليات التصحيح، والتقويم، وحتى التغيير، في قوانين المجتمع، لأن توفر هذه الآليات من شأنه أن يضبط حركة قوى المجتمع ويضعها في المسار الصحيح.
والذي يدقق في كل محركات الثورات والانقلابات، والتغيير، الذي يتم من خلاله تجاوز “الدستور” سيكتشف أن الظلم والاستبداد، و انسداد أفق التغيير الدستوري كان السبب في حدوث تلك الثورات، وفي نجاحها، وفي تقبل الناس لها.
**المستوى الثاني: توفر قوانين عقابية رادعة، قائمة على التعامل مع مفهوم “الإفساد”، وهو مفهوم يتيح أقصى سبل العقاب لكل من ساهم أو عاضد أو روج لمثل هذه الأعمال، وهنا يتقدم هدف حماية المجتمع والدولة على أي هدف آخر، ويصبح من واجب الدولة تطهير المجتمع وأدواته من التعليم والتربية والتوجية والإعلام من كل الأفكار التي تتيح للأفراد والجماعات التغول على وظيفة الدولة، واختطاف دورها ،ووظيفتها، كليا أو جزئيا
هنا يتبن أهمية “الديموقراطية” في مواجهة هذا التطرف في الفكر والانحراف في التدين، والإرهاب في السلوك.
نحن نعلم أن الديموقراطية، لا تنهي هذه الظاهرة، لكنها تجردها من بيئتها الحاضنة، وتعزلها فتكون عارية منفردة، يسهل انكشافها، وتسهل محاصرتها، فتفقد بذلك فعاليتها، وتصبح مجرد بثور ضامرة في جسد مجتمع صحيح.
وفي إطار مواجهة بهذا المدى يصبح مطلوبا من السلطة أن تجري عملية مراجعة جذرية لمفاهيم الثورة السورية التي كتبت آخر صفحاتها القوى والفصائل العسكرية التي تسلمت السلطة، والتي وضعت قائدها أحمد الشرع في سدة الحكم، ليكون رئيسا للجمهورية العربية السورية في الفترة الانتقالية.
إن هذه الخطوة، وكل ما تلاها على المستوى السياسي والقانوني، وعلى مستوى المفاهيم تفرض أن تحولا جوهريا قد حدث في فكر وسلوك هذه الفصائل، تحولا نقلها من فصائل لها فكرها، ورؤيتها ومصطلحاتها، إلى مشروع دولة على مستوى الجغرافيا السورية، “دولة مواطنة”، بكل ما تتضمنه كلمة “مواطنة” من معنى.
**وحتى يكون هذا التحول جوهريا حقا. ويمثل قطعا وانفصالا عن “الفكر السابق” فلا بد أن تستعيد الثورة السورية طبيعتها وفكرها وتوجهها.
ويظهر المقصود هنا، وفي هذا المجال حين نسأل أنفسنا سؤالا محددا:
لماذا ثار الشعب السوري على الحكم الأسدي ؟
هل لأنه نظام علوي كافر؟
أم لأنه كان نظاما مستبدا ظالما فاسدا وقاتلا؟
الإجابة ضرورية ليس للحكم على ما مضى وانقضى، وإنما للحكم على الحاضر والمستقبل
نحن نرى أن الثورة قامت أساسا لأن الحكم الأسدي كان “ظالما، فاسدا، مستبدا، قاتلا”، إلى هذه المعاني تقودنا كل شعارات الثورة وراياتها التي تابعناها ورصدناها ، وتحركت الجماهير السورية وراءها، أما الحكم بكفر النظام ورأسه، فلم يكن يشكل قضية تستأهل البحث، ولم ذلك يوما شعارا من شعارات الثورة، من أجل ذلك سعى السوريون دوما إلى إيجاد طريقة سلمية تنهي هذا المسلسل من الجبروت، لكن النظام ظل رافضا لكل شيء حتى كنسته قوى الثورة المسلحة بعد أن دفعت سوريا: شعبا، وعمرانا، وحضارة، وثروة، الشيء الكثير.
نحن ندرك أن بعض الفصائل المسلحة أقامت وجودها وجمعت أنصارها، واستدعت مقاتليها من كل مكان من العالم لمواجهة النظام الأسدي على قاعدة “كفر النظام”، لكن هذا لم يكن موقف الثورة. ولا قواها الشعبية، ونفترض أن الفصائل المسلحة حين انتصرت الثورة وتوجهت لإقامة دولة تخطت هذه الفكرة، وجرت مراجعتها جذريا، وهنا صار من الواجب المفاصلة على أساس فكرة المواطنة، وصارت “الجمهورية العربية السورية، قائمة على فكرة “المواطنة”، هكذا أكد الرئيس الشرع، وهكذا تثبت في الوثائق المعتمة منذ اليوم الأول بعد خطاب النصر.
وإذا كان من واجب الوفاء الترحيب بمن ساهم في التصدي للنظام السابق من أي مكان أتى، فقد أصبح من الواجب على الجميع. من جاء من خارج سوريا، أو من داخلها أن يلتزم بالدولة الجديدة دولة المواطنة، المعرفة هويتها باسم” الجمهورية العربية السورية.”
يجب اسقاط كل القوى والجماعات التي لا تعترف بهذه الدولة، “دولة المواطنة”، أو التي تجعل نفسها ووجودها أعلى من هذه الدولة، أو التي تتغول على وجود هذه الدولة وحقوقها، وتخطف أو تصادر بعض وظائفها.
هذه دعوة لحماية المجتمع من أي عدوان جديد ، ودعوة لحماية المواطن، ودعوة لحماية الوطن، فمن بعتدي على المجتمع فإنه بعتدي على المواطن، وعلى الوطن، على تاريخ المجتمع، وعلى حاضره وعلى مستقبله.
وهذه دعوة لا توجه إلى السلطة الحاكمة فقط وإنما لكل قوى المجتمع، لكل مواطن، أيا كان عمله وأيا كان دوره ومكانته، لكن الدور الرئيس يعود على السلطة القائمة، لأنها هي التي تملك أكثر من غيرها، وتقود وتسخر طاقات المجتمع وبرامجه وخططه.
وإذ نتحدث عن سوريا، في هذه المرحلة التي توصف بأنها “مرحلة مؤقتة واستثنائية” فإن مسؤولية السلطة الحاكمة تصبح أشد وأكبر، وعليها يقع أكثر مهمة تأمين المجتمع وحراسة قيمه.
واتساقا مع هذه الحقيقة فإننا نتوجه إلى السلطة السياسية لتقوم بما يجب القيام به في التصدي الشامل لهذا النوع من جرائم الافساد والتعدي على الوطن والمواطن، ويغطي هذا الشمول (المفاهيم / المواطنة، والوسائل / الديموقراطية، والردع/ العقوبات)، حماية لنا جميعا، وحماية لوطننا، لوحدته الجغرافية، ولتماسكه الاجتماعي، ولثروته الوطنية، ولغنى تنوعه الحضاري.
حلب 26/6/2025