مشكلة المقاتلين الأجانب في سورية

حسان الأسود

مع اندلاع الثورة السورية في 18 مارس/ آذار 2011 من مدينة درعا، وبعد تعاظمها وامتدادها إلى بقية المحافظات والمدن والقرى السورية، ومع انتهاج الحلّ الأمني العسكري، وبعد تآكل قدراته على مواجهة الشعب والثوّار المسلّحين، استعان نظام الأسد بمقاتلين أجانب منظّمين في مليشيات طائفية مدعومة من قوى إقليمية. كان حزب الله اللبناني رأس حربة تلك المليشيات، وتعدّدت بقيّتها، فضمّت (مثلاً لا حصراً) لواء فاطميون الأفغاني ولواء زينبيّون الباكستاني، بالإضافة إلى مليشيات عراقية متنوّعة، بهدف تعزيز قدراته القتالية. وكان النظام قد اتّبع استراتيجيةً واضحةً منذ البداية لمحاربة الثورة السلمية، تقضي بإطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين المتشدّدين من سجونه، وسبق أن شارك بعضهم في الحرب ضدّ الأميركيين في العراق وأفغانستان، مقابل اعتقال الثوّار السلميين المدنيين. كان الهدف إغراق البلاد في دوامة عنف لوضع دول الإقليم، والمجتمع الدولي، بين خيارَين، فإمّا النظام وإمّا المتطرّفون من كلّ بقاع الأرض.

تفيد تقديرات متنوعة بأنّ عشرات الآلاف (ربّما تجاوز عددهم 40 ألف مقاتل من أكثر من مائة دولة) قد توافدوا إلى الأراضي السورية. لم تكن دوافع هؤلاء المتطوّعين متجانسةً، فمنهم من انضمّ إلى فصائل المعارضة المسلّحة المتنوعة، مدفوعاً بمزيج من التضامن مع الثورة الشعبية ضدّ نظام استبدادي، وشريحة أخرى حظيت بالقدر الأكبر من الاهتمام الإعلامي والسياسي، التحقت بتنظيم القاعدة. جبهة النصرة التي غيّرت اسمها لاحقاً إلى هيئة تحرير الشام (وغيرها) التحقت بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). جاء هؤلاء جميعاً حاملين برامجَ أيديولوجيةً عابرةً للحدود، تسعى إلى إقامة خلافة إسلامية أو تطبيق تفسيرات متشدّدة للشريعة الإسلامية. لم يقتصر تدفّق الأجانب على هذه الفئات، بل شهد الصراع العسكري لاحقاً أيضاً انخراط أفراد في صفوف وحدات حماية الشعب الكردية، بدوافع تراوحت بين التعاطف الأيديولوجي مع المشروع الكردي في شمال سورية، والرغبة في محاربة تنظيم داعش، أو حتى البحث عن مغامرة قتالية.

يثير ملفّ المقاتلين الأجانب وعائلاتهم في سورية كثيراً من الأسئلة، فهل يجب إعادتهم قسراً أو طوْعاً إلى بلدانهم الأصلية لمواجهة العدالة، أم الخضوع لبرامج إعادة تأهيل كما يُطالب فريقٌ سوري يرى فيهم قنبلة موقوتة في مجتمع متنوّعٍ لا يحتمل التشدّد الأيديولوجي؟ أم يمكن دمجهم (أو على الأقلّ دمج بعضهم) في النسيج المجتمعي السوري الهشّ والمثقل أصلاً بجراحات الحرب، كما يذهب أنصار فريق سوري آخر يرون فيهم قيمةً مضافةً لما قدّموه من خدمات لمصلحة إزاحة النظام الاستبدادي؟ أم يجب ترحيلهم إلى دول ثالثة، ومن ثمّ إنشاء محاكم دولية خاصّة لمحاكمة المتورّطين منهم في جرائم حرب والجرائم ضدّ الإنسانية؟

جاء المقاتلون حاملين برامجَ أيديولوجيةً عابرةً للحدود، تسعى إلى إقامة خلافة إسلامية أو تطبيق تفسيرات متشدّدة للشريعة الإسلامية

ليست الإجابة عن هذه التساؤلات بالأمر اليسير، ولا تقتصر على الأبعاد الأمنية والقانونية، بل تشمل اعتبارات إنسانية، اجتماعية وسياسية عميقة. يستدعي هذا استقراء تجارب شعوب أخرى للاستفادة منها، وذلك كلّه يجب أن يتم مع الأخذ في الاعتبار المصالح المتضاربة للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الملفّ السوري، والأهم من ذلك كلّه احتياجات (وتطلّعات) المجتمع السوري المنهك من طول فترة الصراع والحرب.

يفرض وجود المقاتلين الأجانب ذوي الانتماءات المتطرّفة تحدّيات عديدة على المستويات المحلّية والإقليمية والدولية. يشكّل هؤلاء الذين اكتسبوا خبرات قتالية متقدّمة، وتمرّسوا على تكتيكات حرب العصابات، وتلقّوا تدريبات على صنع المتفجّرات، تهديداً أمنياً جسيماً وطويل الأمد. هذا التهديد لا يقتصر على سورية فحسب، بل يمتدّ ليشمل دولهم الأصلية والمنطقة برمتها، وحتى دولاً لم تكن طرفاً مباشراً في النزاع. يعيد المشهد السوري الراهن إلى الأذهان تجربة الأفغان العرب، الذين تحوّلوا منظّرين وقادةً في تنظيم القاعدة بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان، كما يذكّرنا أيضاً بالمقاتلين الشيشان الذين تشرّدوا في بقاع الأرض بعد هزيمتهم على يد الروس، وبعضهم حضر إلى سورية، وما زال موجوداً فيها.

استطاعت القيادة السورية الجديدة تغيير موقف الإدارة الأميركية من هذا الملفّ بشكل جذري، فبعد أن كانت المطالب واضحةً وحازمةً ومباشرةً بضرورة إخراج هؤلاء المقاتلين من سورية، أصبح الآن بإمكان الحكومة السورية دمجهم في الجيش السوري الجديد، حسب تصريحات متواترة أطلقها مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى، فقال مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سورية، توماس باراك، إن الولايات المتحدة وافقت على خطّة طرحتها القيادة السورية الجديدة للسماح لآلاف من المقاتلين الأجانب، الذين كانوا في السابق ضمن المعارضة، بالانضمام إلى الجيش السوري، شريطة أن يتم ذلك بشفافية. وتأتي زيارة وزير الدفاع الأميركي بيتر بيريان هيغسيث، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال دان كين، المرتقبة إلى دمشق، لتعزيز هذا الاتجاه التصالحي والتغيّر الجذري في الموقف الأميركي من وجود هؤلاء المقاتلين، وبقائهم في سورية، ودمجهم في القوات المسلّحة السورية. لا شكّ أنّ هذين المسؤولَين رفيعَي المستوى لن يبحثا موضوع تسليح الجيش السوري الجديد فقط، بل سيناقشان بالتفصيل خطط إدماج هؤلاء المقاتلين ومنع تسرّبهم إلى بقايا “داعش”، وضمان عدم تشكيلهم أيّ خطر على إسرائيل، راهناً ومستقبلاً.

يعطي دمج المقاتلين الأجانب في فرقة عسكرية واحدة (الفرقة 84) بقية القوى حافزاً للتمسّك بمطلب دخولها الجيش كتلةً واحدةً

ما الذي ينتظره السوريون والسوريات من السلطة السياسية الجديدة في هذا الملفّ؟ وهل هم أصحاب القول الفصل في هذا الشأن؟ وهل استشيروا أو استطلعت آراؤهم؟ وأين تقف مصالحهم وحقوقهم وكرامتهم، وهم الذين عانوا الأمرَّين من هذا الصراع المدمّر؟… الإجابة عن هذه الأسئلة تفترض التعريج على عدد من النقاط المهمّة. فلا يمكن إقامة سلامٍ دائمٍ ولا مصالحة حقيقية في سورية من دون تحقيق العدالة، فلا بدّ من محاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة، بمن فيهم المقاتلون الأجانب. لا بدّ من ملاحظ مشكلة هؤلاء المقاتلين الأجانب وعائلاتهم في خطط إعادة الإعمار، وإلا سيكون علينا توقّع انخراطهم في جماعات إرهابية أو قيامهم بأنشطة تخريبية، مثل التحاقهم بعصابات تهريب المخدّرات لتأمين فرص عيشهم. كذلك، يشكّل المقاتلون الأجانب تهديداً محتملاً لغالبية الفئات المجتمعية السورية، ليس للأقليات فقط، بل للأكثرية المسلمة السُّنية أيضاً. فهؤلاء لا ينتمون إلى الثقافة السورية، ولا يدركون سياقات تطوّر المجتمع السوري وتعايش أفراده ومجموعاته المتنوّعة دينياً وطائفياً ومذهبياً وقومياً. إضافة إلى ذلك، ثمّة مشاكل تتعلّق بالأولويات الوطنية السورية، وخاصّة تلك المتعلّقة بإعادة الضبّاط وصفّ الضباط والأفراد، المنشقّين عن الجيش خلال مرحلة الصراع مع النظام البائد إلى أماكنهم، أو أماكن تناسبهم. وهناك أولويات إعادة السوريين النازحين واللاجئين إلى مدنهم وقراهم. كذلك هناك تحدّيات دمج قوات سورية الديمقراطية وغيرها من التنظيمات المسلّحة. يجدر القول إنّ خطط إدماج المقاتلين الأجانب، وأغلبيتهم من الإيغور، ضمن فرقة عسكرية واحدة، أطلق عليها اسم “الفرقة 84″، يعطي حافزاً لبقية القوى للتمسّك بمطلبها أن تدخل الجيش كتلةً واحدةً.

في الختام، لا بدّ من النظر إلى هذه المشكلة بعيون جميع الأطراف، ولا بدّ من أخذ تجارب الشعوب بعين الاعتبار، حتى لا تكرّر الأخطاء التي ارتكبت سابقاً، وحتى نخفّف من الآثار المستقبلية السلبية المحتملة على المجتمعَين السوري والإقليمي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى