محاكم التفتيش الافتراضية

سلام الكواكبي

محاكم التفتيش أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، هدفها الأساسي كان محاربة الأفكار والمعتقدات الدينية المخالفة للمذهب الكاثوليكي، حين كانت الكنيسة تعتبر أن حفظ العقيدة الدينية مسؤولية مقدسة، ولذلك منحت نفسها سلطة محاكمة “المخالفين”. وقد بدأت في القرن الثاني عشر في جنوب فرنسا، ثم توسّعت لتشمل إسبانيا، إيطاليا، والبرتغال. المحاكم الإسبانية التي أُنشئت عام 1478 بأمر من الملكين الكاثوليكيين فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى، كانت الأكثر شهرة وصرامة. واستهدفت اليهود والمسلمين الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية. وبعد أن أصبحت رمزًا للقمع الفكري والديني في التاريخ الأوروبي، أُلغيت رسميًا عام 1834 في إسبانيا. بالمقابل، استمر العمل على استخدام هذا المصطلح حتى في وقتنا الحالي، وشهد تطورًا يتناسب طردًا مع تطور الأحداث والمواقف.

صار من المألوف للغاية أن يرد المصطلح في أيامنا هذه في توصيف ممارسة حكومية أو مجتمعية بحق من عارض السلطة أو من خالف المجتمع. إذ تلجأ السلطة، حكومية كانت أم دينية أم إعلامية أم مجتمعية، إلى استعمال لغة هجومية تخوينية أو تكفيرية أو قمعية باتجاه من يخالفها الرأي. وهذه هي محاكم التفتيش المعاصرة في الخطاب السياسي الحديث. كما عرف العرب محاكم تفتيش أكاديمية/ فكرية كالتي تعرّض لها المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد سنة 1994 في القاهرة.

مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، نشطت محاكم التفتيش الإلكترونية أو الافتراضية. وبدا أن المجال قد أُفسِحَ للبعض من مستخدميها لكي يمارسوا من خلال نشاطهم في أروقتها، أعتى أنواع محاكمات النيات والمواقف والأعمال. وبرزت ظاهرة الإلغاء، والتي توصف أحيانا بأنها محاكم تفتيش رقمية، حيث تجري محاكمة جماهيرية للمتهم بناء على ما وجد له من آراء قديمة على وسائل التواصل الاجتماعي أو زلات لسان، سيفيد إعادة تسليط الضوء عليها المرحلة التي يعبر بها عمل محاكم التفتيش الرقمية هذه. إن عبارة “محاكم التفتيش” تستخدم اليوم لانتقاد الاستبداد الفكري أو الرقابي وللدلالة على جهة سياسية أو دينية أو اجتماعية تتصرف بعقلية تسلطية لا مجال لديها في قبول الاختلاف أو النقد.

إبان الربيع العربي، وعلى الرغم من تباين التجارب بين البلدان التي عرفته، إلا أن “محاكم التفتيش” الافتراضية انتشرت لدى جميع الأطراف. وفي سوريا، طور كل من النشطاء الثوريين من جهة ومتمجدي السلطة الراحلة من جهة أخرى، محاكم تفتيش افتراضية موجهة ضد الطرف الآخر. وقد تنوعت مواضيع هذه المحاكم وتراوح مدى خطورتها حسب كل ملف على حدة. لكن جمع بينها درجة العنف اللفظي والتحامل والتشهير واللغة الذكورية، إلى آخره من التعابير السلبية الموصوفة. ويترجم مستوى العنف في المضامين هذا، لدى الطرفين، مدى رسوخ الشعور بفقدان الأمل في النجاح بردم الفجوة الوطنية العميقة بين موالاة ومعارضة عبر السياسة والحوار. لقد أتاح هذا الوضع المجال ليفرض الحل العسكري نفسه، والذي مهما نبلت أهدافه من طرف أنصار الثورة والتغيير، فقد أدى إلى سقوط القتلى والجرحى ودمار شامل، أول من يتحمل مسؤوليته هي السلطة التي لجأت إلى استعمال القوة في وجه شعبها الأعزل قبل أن يتسلح الجزء منه.

من طرف السلطة، بذل قضاة في محاكم التفتيش الافتراضية جهودًا حثيثة لسرد الأكاذيب ونشر الشائعات وإضعاف الثقة بين صفوف المعارضين. ولقد كان من الطبيعي أن تقوم صفحاتهم بعقد جلسات محاكمة افتراضية تحكم فيها على الأفراد المعارضين، تارة بالخيانة العظمى، وتارة أخرى بالعمالة وفي مرات بالإرهاب، وما إلى ذلك من صفات تساهم في الانتقاص من مصداقيتهم لدى العامة. من طرف المعارضة، تميزت محاكم تفتيش المعارضين الافتراضية بانقسامات متتالية ترجمت غياب الانسجام الفكري وتعدد المرجعيات من دينية إلى قبلية إلى منفعية. وأدت هذه الانقسامات، والتي كانت شبه معدومة لدى أتباع السلطة والمدافعين عنها، إلى فتح جبهات افتراضية جانبية قلّصت من شرعية العمل الثوري، لما حملته من بؤس الخطاب الذي اعتمد على باقات من الكلمات النابية.

لقد حفلت السنوات الـ14 الماضية بصراعات افتراضية شغلت المعارضين عن الصراع الحقيقي، وساهم فيها عدد لا بأس به من “النشطاء”، والذين وجدوا في جلوسهم خلف الشاشات دريئة تسمح لهم، ليس بالتخفي فحسب، ولكن أيضاً بإطلاق ما يرغبون من عبارات التشهير ومن شائعات. واليوم، ومع وصول سلطة جديدة إلى دمشق والتخلص من مؤسسة أمنوقراطية دامت لأكثر من 54 عامًا، بدأت محاكم تفتيش افتراضية جديدة العمل لتحاسب كل من تخوّل له نفسه الأمارة بالعدل بالإشارة لأي انتهاك ما أو خلل ما أو خطأ موصوف مثبت ما. وبالتالي، الإسراع بالحكم عليه بأنه “من الفلول” أو “أين كان خلال الأعوام السابقة” أو أنه “يشكك بشرعية الحكم الجديد” أو أنه “يشعر بالحنين للنظام السابق”.

على من يؤمن بأن الوقت حان ليلعب دورًا بنّاءً في نصرة النظام الجديد، فلينزل إلى ساحة العمل، بعيداً عن الخطاب المكرر والشاشات. ولمن يرغب من النخبة المثقفة أو من عامة الناس أن ينتقد الشيء أو الكل من أداء النظام الجديد، أن يفعل ذلك من دون خوف أو إرهاب من محاكم التفتيش الافتراضية.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى