
انطلاقاً من ضرورةِ ضبط إيقاع المخاض النهضوي العسير في المرحلة الانتقالية، شهدت سورية تغييرات سريعة منذ فرار بشّار الأسد، أهمها قرار رفع العقوبات الغربية الذي أعلنه دونالد ترامب في كلمةٍ له في الرياض، ليُعتبر الهدية الثمينة الثانية بعد إسقاط نظام الأسد، ويشكّل منعطفاً حاسماً في مسار الدولة والمجتمع يُعيد رسم علاقة سورية بالعالم من حولها، خصوصاً وأنّ الرئيس الأميركي أخبر أحمد الشرع أنّ لديه فرصة نادرة لقيامةٍ عظيمة في بلاده بعد منح شعبه بداية جديدة. وأقول: السوريون، بدورهم، يملكون فرصة تاريخية لن تتكرر لرفع ما هو ألعن وأكثر خطورة، وأقصد بالطبع القيود الطائفية.
في المقابل، شكّل القرار تطوراً دراماتيكياً هاماً فتحَ الباب أمام تساؤلاتٍ ملتهبة بشأن جدوى هذا التحوّل المفاجئ بالتوازي مع إرث النظام المخلوع وتداعياته على بلد خرج لتوّه من الجحيم، وعلى جنباته المُقفرة تنفجر الأحقاد المعلّقة، تحت مشاهد مذابح طائفية، أو صدامات ومظاهرات طائفية، بما يوحي وكأنّ سورية دخلت حقبة أبدية، لكن بسياقٍ آخر.
من هنا، من الدقّة بمكان الإشارة إلى أنّ ديناميكيات التفاعل السلبي بين المكوّنات السورية، ومهما بلغت من التعقيد، ليست كافية لتكون دلائل حاضرة على وجود مشكـلة طائفية حقيقية ومتجذّرة. ويبقى السؤال الملحّ أنه ووسط الفراغ الأمني الهائل القائم على الاستقطاب المذهبي والعرقي، كيف سيكون السوريون جديرين بكرم ترامب غير المسبوق؟ يرتكز الجواب على حفنةِ تفاؤل، خصوصاً وأنّ المُعطيات المتوفّرة، حالياً على الأقل، تؤكد أنّ الطائفية لن تكون المشكـلة التي ستعاني منها سورية المستقبلية اللامركزية، وهي تسير قدماً باتجاه “الفدرلة”، إنْ جرى تقسيم البلاد إلى خمسة قطاعات حسبما أعلن عنه وزير الداخلية السوري في الآونة الأخيرة.
ديناميكيات التفاعل السلبي بين المكوّنات السورية، ومهما بلغت من التعقيد، ليست كافية لتكون دلائل حاضرة على وجود مشكـلة طائفية حقيقية ومتجذّرة
بالتساوق مع ما تقدّمـ يقع على عاتق السلطة الحالية مسؤولية خلق وعي سياسي ووطني ضمن فضاءات مدنية واسعة، لردع الخطابات الديماغوجية الطائفية على وسائل التواصل الاجتماعي، كذلك المهرجانات الدعوية الكاريكاتورية والتجاوزات المستفزّة، التي لم تكن مجرّد تصرّفاتٍ خرقاء فردية من متديّنين متشددين ومتحمّسين، إذ كشف زخمها مستويات عالية لخطاب الكراهية والإقصاء، أيضاً تسويق مصطلحَي الأغلبية “المُباركة” والأقلية “المُدانة”، ما يمثّل عصياناً يمهد لحالة انقلابية على الهوية الوطنية الجامعة، وإشاعة حالة عدم يقين في وقتٍ تحتاج البلاد فيه إلى رأب التصدعات وهدم الجدران العازلة التي خلّفها النظام البائد، الذي روّج كذبة كبيرة أنه “حامي” الأقليات. لنتذكّر: عند تأسيس الجيش السوري عام 1945، نُقلت إليه كلّ مقدرات جيش الشرق البشرية، ومنها العلويون، الذين وجدوا أنفسهم بين الآباء المؤسسين للمؤسسة العسكرية، ولم يكونوا منبوذين ومضطهدين، كما ادّعى حافظ الأسد. وعلى السوريين اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، دحض تلك الأكاذيب، واستنكار المصطلحات المتداولة عن سُنّة أكثرية في دولة أموية يُعاد إنعاشها قسراً، بصفتها انحرافاً كارثياً عن طريق بناء بلد عابر للطوائف والأعراق.
فعلياً، لا توجد حساسية طائفية إلاّ عند من يتبنّاها ويسوّقها، بالتالي فإنّ التضخيم المغرض للسرديات الطائفية وارتفاع الأصوات المحرّضة، هدفه تسهيل الطريق لتمزيق النسيج الاجتماعي، بداية في الساحل السوري، ولاحقاً في البيئة الدرزية بعد التسجيل الصوتي المفبرك وتداعياته الكارثية، وعلى الطرف الآخر ترتفع نسبة شيطنة “الأكثرية” من قبل “أيتام الأسد”، وشيطنة “الأقليات” من قبل المتطرفين الحاقدين، إضافة إلى باقي الطوائف والإثنيات، خصوصاً الكردية التي لا تخفي مخاوفها الوجودية من المستقبل…إلخ، هذه الدوامة الطاحنة لم تُوقع السوريين في الفـخّ الطائفي المُحكم، بدلالة أنه وفي الوقت الذي تظهر به أصوات تتناول مجريات الأحداث المشتعلة بأبعاد طائفية وبلغة عنصرية مقيتة لا تخدم إقامة السلم الأهلي، تظهر أصوات مقابلة تُدين هذا “الزعيق الطائفي” وتسخّفه في مكان. وخير دليل على ذلك ملصقاتٌ عُلّقت في اللاذقية تدعو إلى تكفير العلويين، ليزيلها عقلاء من السنّة على الفور.
وعليه، التذكير بأسباب الطائفية ليس مجرّد اجترار مجاني للماضي وإنما إنعاش للوعي المغيّب بما يجب أنّ يُعلَمَ بالضرورة، ومن ثمّ، فإنّ استحضار أحداث حماة (1982)، مثلاً، والتي فعّلت نبرة الطائفية إلى الحدود القصوى بعدما كانت في مستواها الأول غير الملموس، مدخلٌ لازم للبحث في سُبل الشفاء من اللعنة السوداء التي فُرضت على السوريين وأصبحت ملازمة لهم، بعدما دفعهم نظام الأسد للتمسك بهوية إيمانية دوغمائية تضع الذات في مفارقة جدلية عقيمة مع الآخر المختلف لفرض حالة تضاد صدامي صالحة دائماً للاستثمار، ما يجعل اللوحة الفسيفسائية السورية المصطلح الأكثر ابتذالاً الذي عرفه السوريون يوماً.
نضال السوريين ضد الطائفية جزءٌ من النضال من أجل تشكيل معرفة وطنية تليق بالفرصة التاريخية التي مُنحت لهم
بطبيعة الحال، يُجمع مراقبون على أنّ الطائفية بمزاجها المتشدّد دخيلةٌ على المجتمع السوري المتسامح نسبياً، ولا شك مرّت نزعة “الشِقَاق الوطني” بمحطات هبوط وصعود بلغت مداها في عهد نظام الأسد، الذي رعاها ضمناً وأنكرها علناً، معيداً ترتيب مفردات الاختلاف الطبيعي بين المكونات السورية لتخديم سلطته العميقة وتكوين آلته القمعية. وحين رُفع غطاء الجحيم عن البلاد أخيراً بإعلان نهاية حكم الأبد إلى غير رجعة ظهرت أمراضٌ مجتمعية ساهم في صناعتها، وهي، في جوهرها، ليست إلاّ سجال الألم وسعار الغضب اللذين ينتهيان دائماً إلى عباراتٍ سامّة، من قبيل “نحن” و”هم”. واليوم، وفي لحظة مفصلية حرجة تشهدها سورية والمنطقة، المتاح إما مصالحة وطنية تُنهي تراشق التهم الطائفية بين الأطراف المختلفة أو أن تغدو التحالفات والأيديولوجيات سبيلاً لتثبيت مشروع “أفغنة” الدولة، وهي أفضل السيناريوهات الممكنة حينها، أو لمشروع احترابٍ دموي دائم في أسوئها.
يتوجب الجزم بيقين أنّ المشكلة الطائفية لم تنشأ بسبب التنوّع وتناقض مصالح الطوائف، بل تكمن أساساً في الاستثمار السياسي فيها، ولا يمكن اجتثاثها من جذورها إلا بترسيخ أسس الديمقراطية الفعلية، بعيداً عن منطق المحاصصة. والواقع أنّ ضرب الخطاب الطائفي لن يتمّ إلا مع سقوط الحاضن الأول له، وأقصد تركة الأسد، على القدر نفسه من الأهمية، بوقوف السوريين جميعهم بحزمٍ ضد التخوين والعنصرية، خاصة تحريض سوريّي الخارج وقراءتهم مسبَقة الصنع للمشهد السوري، والذين انتقلوا بسرعةٍ مريبة من الانتقاد إلى مدافعين شرسين عن الحكومة الجديدة، لإيمانهم أنَّ “القوة دائماً على حقّ”. ولا نبالغ إذ نقول إنه ينطبق على الطائفية السورية توصيف “قميص عثمان المُدمّى”، الذي رفعه بنو أمية والنيّة المُضمرة لم تكن الثأر لعثمان، بل الوصول إلى نيل السلطان، واليوم تشهد الفضاءات السورية العامة ارتفاعاً مهولاً وممنهجاً في الخط البياني لخطاب العدالة “الانتقامية” بقصد الهيمنة والتمكين، ما يؤكد على رُدّة وطنية للوافدين من أماكن التطرّف، وربما القهر، وبذريعة الشعار الأكثر استبداداً “من يحرّر يقرّر”.
نافل القول: تراجع الأزمة السياسية سينجم عنه بالضرورة تراجع في التوتر الطائفي، أما التعامل معه، بوصفه تحصيل حاصل لما تقدّم ذكره، فضرورة ملحّة لا تستوجب الإنكار أو التأجيل، باعتباره آفة مارقة تجعل التسليم بزواله نتيجةً لا جدال حولها. بالتالي، نضال السوريين ضد الطائفية جزءٌ من النضال من أجل تشكيل معرفة وطنية تليق بالفرصة التاريخية التي مُنحت لهم، لمواجهة خطر هذا الطاعون القاتل، ومحاربته بكل الوسائل المتاحة، لأنه، ببساطة شديدة، مصدرُ تفرّق وعداوة ضدّ التنوع والاختلاف، وأيضاً ضدّ الحياة.
المصدر: العربي الجديد