هل يعود اللاجئون إلى سورية بعد رفع العقوبات الدولية عنها؟

فاطمة عبود

هناك أكثر من 6.5 مليون لاجئ سوري موزعين في أصقاع الأرض، لكلِّ واحد منهم حكايته التي تبدأ غالباً بمجزرة أو اعتقال أو تهديد، ولا تنتهي إلا بحقيبة صغيرة ووداع طويل، ومع كلِّ تطور سياسي أو اقتصادي يلوح في الأفق، يعود السؤال القديم ليطفو من جديد: هل انتهت رحلة شتات الشعب السوري؟ وهل سنعود إلى سوريا؟

في الظاهر، يبدو أنَّ رفع العقوبات حدث إيجابي، وهو كذلك، إذا ما نظرنا إليه من جانب واحد، إذ كانت العقوبات، طوال سنوات الحرب، أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الاقتصاد السوري؛ فالأسعار تضاعفت بشكل جنوني، الكهرباء أصبحت رفاهية، المستشفيات تهالكت خدماتها، والمصانع توقفت عن الإنتاج.

وفي الخارج، كان السوريون يتحدثون دائماً عن المعاناة هناك، حيث لم يكن سهلاً أن يشاهدوا أهلهم الذين ما استطاعوا الخروج من سوريا يصطفون في طوابير الخبز، أو يتبادلون الأدوية المهربة في الأسواق السوداء، وغير ذلك الكثير.

أثّرت القيود المفروضة على التحويلات المالية سلباً على أسر كثيرة كانت تعتمد على مساعدات الأقارب في الخارج لتأمين احتياجاتها.

الآن، وبعد أن سقط النظام الأسدي البائد، ورفعت العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، بدأت الأنظار تتَّجه نحو مستقبل آخر؛ لأنَّ الاستثمارات قد تعود، والبنوك قد تفتح أبوابها، والمساعدات الدولية ستتدفق، والشركات ستبدأ بإعادة بناء ما دمَّره القصف، ولا شك أنَّ هذه الصورة مغرية بالعودة إلى الوطن، لكنَّ كثيراً من السوريين لا يستطيعون بناء قراراتهم اعتماداً على وعود اقتصادية فقط. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: هل يكفي رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا حتى يعود السوريون إلى الوطن؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه بشكل مباشر أو سطحي؛ لأنَّه مرتبط بعوامل متشابكة، تتعلَّق بالواقع السياسي، والظروف الاقتصادية، والوضع الأمني، ومدى الثقة في البيئة التي ستتشكّل بعد نهاية النظام.

وخلال السنوات الماضية، شكّلت العقوبات الدولية أداة رئيسة للضغط على النظام السوري الساقط، إذ استخدمت كوسيلة غير عسكرية لمحاصرة النظام، والحدِّ من قدرته على الاستمرار في قمع الشعب السوري، أو تمويل عملياته العسكرية. وقد طالت هذه العقوبات قطاعات حيوية وحساسة، من أبرزها المصارف والبنوك، والطاقة والنفط، والتجارة الدولية، والتحويلات المالية، ما أدى إلى عزل سوريا عن النظام المالي العالمي وتقييد حركتها الاقتصادية بشكل كبير. ورغم أنَّ الهدف المُعلن لتلك العقوبات كان استهداف منظومة الحكم والدائرة الضيقة المحيطة به، إلا أنَّ الانعكاسات العملية تجاوزت ذلك، لتطول قطاعات الحياة اليومية للمواطنين السوريين الذين كانوا يجدون صعوبة في تأمين المواد الغذائية الأساسية والأدوية، التي أصبحت إمَّا نادرة أو باهظة الثمن. كما أثّرت القيود المفروضة على التحويلات المالية سلباً على أسر كثيرة كانت تعتمد على مساعدات الأقارب في الخارج لتأمين احتياجاتها.

لذلك فإنَّ رفع العقوبات، بالنسبة للسوريين في الخارج، لا يمثِّل ضماناً مباشراً أو كافياً لاتخاذ قرار العودة، فقرار كهذا لا يقوم فقط على توفر الظروف الاقتصادية أو إعادة فتح قنوات الاستثمار والمساعدات، بل يعتمد على عوامل أعمق تتعلق بالأمان، والمحاسبة، وإعادة بناء الثقة بمؤسسات الدولة؛ لأنَّ غالبية اللاجئين السوريين غادروا البلاد نتيجة لانعدام الأمان الشخصي، والملاحقة السياسية، والانهيار الشامل في مؤسسات الدولة، وبالتالي، فإنَّ عودتهم مرهونة بوجود نظام سياسي مختلف جذرياً يضمن عدم تكرار الانتهاكات السابقة. السوري في الخارج يحتاج إلى ضمانات حقيقية بعدم التعرض للمساءلة على خلفية مواقفه السياسية، كما يحتاج إلى تأكيدات بأنَّه لن يكون عرضة للاعتقال، أو التجنيد الإجباري، أو للممارسات الأمنية التعسفية التي كانت السبب المباشر في نزوح الملايين.

إنَّ رفع العقوبات عن سوريا بعد سقوط النظام يجب ألا يُنظر إليه كعامل حاسم في عودة اللاجئين، بل كجزء من سلسلة تحولات سياسية ومؤسساتية شاملة.

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ اللاجئ الذي عاش لسنوات في دولة مضيفة ونجح، رغم التحديات، في بناء حياة مستقرة نسبياً، من خلال الحصول على العمل، والتعليم، وتأمين مستقبل أولاده، لن يختار العودة بسهولة إلى وطن ما زال يعيش حالة من عدم اليقين، ما لم يكن متأكداً من أنَّ بلاده أصبحت قادرة على تأمين حياة كريمة، مستقرة، وذات أفق اقتصادي واجتماعي واضح. كما أنَّ العودة في ظل ظروف غامضة وغير مستقرة قد تعني تكرار تجربة الخوف، والحرمان، والاضطهاد التي دفعتهم إلى اللجوء أصلاً، وهو ما يجعل كثيراً منهم يفضلون البقاء في بلاد اللجوء رغم صعوباتها، بدلاً من المجازفة بالعودة إلى بيئة ما زالت محفوفة بالمخاطر.

إنَّ رفع العقوبات قد يشجّع على تحريك عجلة الاقتصاد، ويدفع باتجاه استعادة نشاط البنية التحتية، ويفتح الباب أمام استثمارات جديدة وتدفق المساعدات الدولية، لكنه يظل إجراء تقنياً ما لم يُربط بخطة سياسية واضحة تشمل العدالة الانتقالية، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية، وتوفير بيئة قانونية تضمن الحريات العامة والمساءلة، فعودة اللاجئين السوريين تتطلب أولًا ثقة في الحكومة الجديدة، وثانياً إشرافاً دولياً يضمن التزام السلطة الانتقالية بتنفيذ خارطة طريق متفق عليها، وثالثاً إجراءات عملية تشمل إصدار قوانين للعفو، وإنشاء لجان لحقوق الإنسان، وتقديم تعويضات للمتضررين.

من هنا، فإنَّ رفع العقوبات عن سوريا بعد سقوط النظام يجب ألا يُنظر إليه كعامل حاسم في عودة اللاجئين، بل كجزء من سلسلة تحولات سياسية ومؤسساتية شاملة، وهذا يتطلب بناء دولة جديدة تتجاوز البنية الأمنية التي حكمت البلاد لسنوات طويلة، وتمنح المواطنين حقهم في المشاركة، والمساءلة، والحماية القانونية، ومن دون ذلك، فإنَّ رفع العقوبات سيبقى خطوة ناقصة، وقد يتحول إلى فرصة ضائعة إن لم يُستثمر ضمن مشروع وطني شامل يعيد بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى