
على أعقاب الانفجارات الطائفية التي اشتعلت في أكثر من بقعة من البلاد السورية، منذ أوائل آذار الماضي وحتى الوقت الراهن، وفي ظل ضعف الدولة – أمنيًّا وإداريًّا – وعدم قدرتها على التحكّم بزمام المبادرة، وكذلك في ظل استمرار نمو العوامل المُؤجّجة للصراع الطائفي.
يبرز دور الفواعل المجتمعية الأخرى، وفي مقدمتها النخب الثقافية والسياسية، كعامل مقاوم للاشتعال وللتطييف الديني، إلا أن المتمعّن في طبيعة هذا التصدّي النخبوي يدرك منذ أول وهلة أنه أمام خطاب مألوف، بل ومتكرّر، ولا يحمل في مضامينه وأدواته أيّ جديد يوحي بحيوية للفكر، أو بوادر لوعيٍ متجدّد يمكن أن يُقارب الظاهرة بعيدًا عن الرؤى والتصوّرات النمطية التي استنفدت أي قدرة على التأثير نتيجة التجريب الذي وصل حدّ الابتذال، ولعلّ حال هذا النمط من المواجهة كحال المحارب الذي يُصرّ على مواجهة الطائرة بالسيف والترس.
وربما هذا ما يُفسّر لنا إصرار تيار عريض من المثقفين والساسة على أن تتجه مقارباتهم نحو الماضي بهدف تلمّس جذور المشكلة أولًا، ومن ثم تتبُّع سيرورتها التاريخية، وتفحّص الظروف السياسية والاقتصادية والدينية التي أنتجتها، وبعد ذلك يمكن – وفقًا لأصحاب هذا المنحى – الشروع في كتابة (وصفة) ليس بالضرورة أن تكون قرينة الوعي بالحاضر الراهن، ولكن من الضروري أن تكون منسجمة مع رؤية أصحابها للماضي.
إن انتماء البشر – بالولادة – إلى طوائف وإثنيات، ليس جريرة يُحاسبون عليها، وليس من حق أحد السعي لتجريد الناس من انتماءاتهم الطائفية أو الدينية على العموم.
ولعلنا لا نستغرب – وفقًا لما سبق – أن يكون مفتتح أي مقاربة (نخبوية) للظاهرة الطائفية وقفة مطوّلة عند كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، وكتب ومصنّفات (ابن تيمية)، بوصفهما مرجعين تأسيسيين لتأصيل مفهوم الطوائف، وربما ذهب البعض أبعد من ذلك، أي إلى حروب الخلافة بين علي ومعاوية أو أحداث تاريخية أخرى اتّخذت الدين واجهة لها. ولعل الغاية الأساسية التي تدفع بهذا الاتجاه هي يقين هذا التيار النخبوي بأن الطائفية، بما أنها ذات منشأ ديني (إسلامي حصرًا)، فينبغي مقاربتها ضمن الأطر والأفكار والمعتقدات الدينية وحسب، ولا صلة لهذه الظاهرة بأي عوامل سياسية أو اجتماعية أخرى، وبناءً على هذا التصور يؤكد أصحاب هذا الرأي أن السلطة الجديدة في سوريا إنما تستقوي بحاضنتها (السنّية) حصرًا، وبالمقابل فإن المسلمين (السنّة) هم المدافعون عن السلطة الراهنة بدافع الولاء الطائفي أولًا، ولعلّ هذا الحُكم أو الاستنتاج ينطوي على أمرين اثنين:
1 – إنه تصوّرٌ منبثق عن قناعات إيديولوجية سابقة أكثر مما هو مُستَمدٌّ من مقاربات موضوعية للواقع.
2 – ينطوي هذا الاستنتاج على استنساخ شديد الأمانة لمنظور (استشراقي) يرى الأمور من خلال المفاهيم المجرّدة والمناهج البحثية الصارمة أكثر ممّا يرى الحقائق كما هي على الواقع.
وفي حين يُبدي أصحاب هذا المنحى تمسّكًا شديدًا بمقولاتهم الجاهزة لجعلها منطلقًا لتفسير الظاهرة الطائفية، فإنهم في الوقت نفسه يتجاهلون وقائع عديدة على الجغرافيا السورية ما تزال تداعياتها ماثلةً حتى الوقت الحاضر، يمكننا الإشارة إلى بعض منها:
1 – استطاع تنظيم داعش في الفترة (2014 – 2016) أن يكون سلطة أمر واقع تملك كل وسائل البطش والقوّة، وهو تنظيم إسلامي (سنّي)، بل إن (المسلمين السنّة) – وفقًا لرأي معظم النخب اليسارية – هم الحاضنة الحقيقية لهذا التنظيم، ولكن يتجاهل هؤلاء أن الشريحة التي استهدفها هذا التنظيم لم تكن خصمًا طائفيًّا أو دينيًّا له، فداعش لم تستهدف العلويين ولا الإسماعيليين ولا المسيحيين في سوريا، بل استهدفت الطائفة السنية حصرًا، فقطع الرؤوس، والقتل بالجملة، والمقابر الجماعية كانت في الرقة ومنبج واعزاز ودير الزور وسواها، ولم تكن في مناطق غير السنة، باستثناء ما فعله نظام الأسد في العام 2018، حين قام بنقل مقاتلي داعش من حي (الحجر الأسود) بدمشق، وبالباصات المكيّفة، وألقى بهم على أبواب السويداء لينكّلوا بأبنائها، وذلك كوسيلة ضغط على أهالي السويداء بسبب عدم إرسال أبنائهم للقتال مع جيش الأسد، وللعلم، فإن الشيخ الهجري لم يطلب الحماية الدولية آنذاك.
2 – إن نظام الأسد، الأب والابن معًا، وعلى الرغم من أنه عمل على الاستثمار في الطائفة العلوية، إلا أنه لم يتردد عن التنكيل بأبناء طائفته، ممّن عارضوا نظام حكمه، أكانوا فرادى أو جماعات.
إن انتماء البشر – بالولادة – إلى طوائف وإثنيات، ليس جريرة يُحاسبون عليها، وليس من حق أحد السعي لتجريد الناس من انتماءاتهم الطائفية أو الدينية على العموم، طالما أن الدين ظل في الحيّز الشخصي وبعيدًا عن السياسة، بل لعل جميع الهويات الفرعية، بما فيها الهويات العرقية، لا تُجسّد أي خطر على الدولة والمجتمع طالما ظلّت مرهونة بطبيعتها (كهويات فرعية) لا تطرح ذاتها كبديل عن الهوية السورية الجامعة، وهذه الأخيرة ينبغي ألّا تكون موسومة بأية محدّدات دينية أو عرقية، بل مضمونها الجوهري يتمثّل بالمصالح المشتركة بين المواطنين، وفقًا لمبدأ العدالة والمساواة والمواطنة.
تجريم الطائفية سوف يبقى منقوصًا إن ظلّ مرهونًا بمجرد الوعظ وإسداء النصائح ما لم يقترن بسنّ قوانين رادعة ونافذة تجرّم النزوع الطائفي.
يتحوّل مفهوم (الطائفة) إلى لوثة خطيرة حين يدخل حرم السياسة، ولعله يصبح عاملًا من عوامل الفساد والخراب حين تصبح الطائفة بديلاً عن الحزب، أو عن كيان الدولة.
أما مواجهة لوثة الطائفية وسبل الحدّ من ارتداداتها المخيفة، فمن المجدي أن تكون في غرف السياسة والاقتصاد والقانون، وليس في بطون الكتب والمصنّفات القديمة، ولا في دعوة الناس للتجرّد من أديانهم وأعراقهم، وكذلك ليس بكثافة الحشود الوجاهية في المساجد أو الحوزات أو الكنائس أو المضافات، بل بالتزام نظام الحكم مبدأ العدالة، وتطبيق مبدأ المواطنة والديمقراطية، وحيادية الدولة، والامتثال لأحكام الدستور وما يتفرع عنه من قوانين، وكذلك عبر السعي الجاد لتلبية الحاجات الاقتصادية والحياتية للمواطنين، والعدالة في الاستفادة من ثروات البلاد دون أي تمييز، وتأمين فرص عمل تتيح للسوريين العيش بكرامة. كما من المفيد التأكيد على أن تجريم الطائفية سوف يبقى منقوصًا إن ظلّ مرهونًا بمجرد الوعظ وإسداء النصائح ما لم يقترن بسنّ قوانين رادعة ونافذة تجرّم النزوع الطائفي، وتردع خطاب الكراهية، وتحاصر هذه الظاهرة بقوّة القانون وهيبة العدالة، وليس باستجداء مشايخ وزعامات الطوائف، ولا باسترضاء أي طرف إقليمي أو دولي.
المصدر: تلفزيون سوريا