
تظل بعض الأرواح، في عالم تغمره الخسارات، وتنهشه الحروب، مشعّةً من الداخل، ترفض أن تنطفئ، ولو حوصركل ما فيها من الضوء. الشاعر حسان عزت واحد من أولئك القلائل الذين يمشون في الأرض محمّلين بالشعر كما لو أنه عبء الحب، وبالصمت كما لو أنه موسيقى، وبالمنفى كما لو أنه قدر الشرفاء. حسان- ابن الشام كما يسميها، والذي تشربت روحه بمعجم بلدة المليحة في غوطة دمشق الشرقية. عنوان ذويه المتفحم في حرب النظام على السوريين، خرج من مدينته الجريحة مبكرًا، لكنه لم يغادرها حقًا. ظلت تسكنه كما تسكن القصيدة وجدان شاعرها. دمرها النظام كما دمر أحلام جيل كامل، لكنها بقيت حيّةً في قلبه، كطفولته، كصور البيوت التي تهدمت، كوجوه الأحبة الذين تشردوا، كخرائط الذاكرة التي لا تنطفئ مهما ادلهمت العتمة.
انتقل حسان في العام 2001، إلى دولة الإمارات، محملاً بحقيبة فيها تراب البيت، وظلال الشام، وبعضٌ من وجع الغوطة. في ذلك المنفى الطوعي، لم يكن شاعرًا فقط، بل كيانًا شعريًا يمشي على قدمين. تواصلتُ معه وقت كنت أعمل في جريدة الخليج، وكان التواصل بيننا دائماً، إذ لم يبخل بشهاداته الثقافية، ولا بكلمته الندية. كان حاضرًا، متفاعلًا، صادقًا. لم يكن مجرّد شاعر منعزل، بل كان رافدًا حيًا للمشهد الثقافي السوري والعربي في تلك البلاد، اسماً من أولئك الذين لا يمكن تجاوزهم حين يُكتب عن الشعر والدفء والمواقف الأصيلة.
لقد ظل حسان شاعرًا في تفاصيله. في يومه، في مشيته، في صداقاته، في تأمله، في عزلته. وكانت علاقاته الإنسانية جزءًا من مشروعه الشعري، لا فاصل فيها بين الحياة والنص، بين القربى والمجاز. القصيدة عنده لم تكن طارئة ولا طقسًا نخبويًا، بل ضرورة يومية، بقاءٌ ناعم وسط عالم قاس.
قصائده في دواوينه: زمهرير، جناين ورد، حواري الورد، وغيرها، لم تكن تصف الألم، بل كانت تنزف به. وكانت نصوصه الصحفية، حتى عندما كان يعمل في جريدة “تشرين” المحاصرة بخطاب السلطة، أشبه بورود تنمو بين الإسمنت، مقاومة، عنيدة، صافية، لا تتخلى عن طينتها مهما اشتدت حجارة المطبوع الرسمي.
ولا يمكن أن ننسى أن حسان عزت وفي في لحظة من وهجه الإنساني، كتب نصه الشهير “لي صديق من كردستان”، الذي غناه سميح شقير وردّ عليه لفنان الكردي العالمي شفان برور، فصار النص جسرًا بين المنفيين، بين القلوب، بين قهر الشعوب وأناشيدها. وكان ذلك موقفاً يسجل له، في زمن اضطر جميعهم، نتيجة هيمنة الثقافة العنصرية تناسي الكرد، واعتبار مجرد ذكر كلمة- كرد- خيانة قومية، في ظل سلطة البعث والأسد.
لقد كان صديقًا حقيقيًا لكثيرين من المثقفين الكرد، كما قلة من مثقفينا السوريين، وإن تعرضت العلاقة في زمن -الحرب- لتغييرات كثيرة، فلرب مدع لصداقة الكرد خذلهم، مقابل من كان يدير لهم الظهر وبات يتفهمهم أكثر، فقد كان حسان يرى فيهم ظلًا للوجع السوري، ضمن هذا الإطار، تحديداً، ومرآةً للأحلام المستلبة. حيث لم يكن يكتب عنهم من الخارج، بل من الداخل، من موقع الشبه، من زاوية الألم، من موضع الصداقة الحقيقية التي تتجاوز السياسات وتنتمي إلى الإنسان، ولقد اختير كرئيس للجنة جائزة حامد بدرخان. صديقه الذي كانت بينهما مودة وعلاقة.
رفيقة الدرب ونجمة الطفولة الأخيرة
في قلب مثل هذه الحياة، كانت تقف إلى جانبه فاتن حمودي، رفيقة دربه، الشاعرة، والكتف التي أسند عليها غربته وعزلته وخيباته. لم تكن زوجةً فحسب، بل شريكة روح وكتابة، أماً لأطفالهما، وقلبًا مفتوحًا على الدفء والاحتمال.
كانت ولاتزال شاعرة تمشي إلى جانبه لا وراءه، تصوغ له من تفاصيله الصغيرة زينةً يومية، وتمنح الوقت شكلًا أدبيًا حتى في أصعب الظروف. وكيف لا وقد عاشا معًا ولا يزالان، في صميم تلك اللحظة النادرة التي يكون فيها الشعر خيمة بيت، والشراكة قصيدةً طويلة، لا تكتب بالحبر وحده، بل بالتضحية والصبر والتواطؤ على الأحلام. ثم جاءت إيفا أو حواء، لتكون ذروة النور، قصيدته المرسومة، طفلته التي حملت رهافته، وفنّه، ومزاجه الشفيف.
رأيناها تكبر أمام أعيننا، منذ كانت ترسم كما لو أنها تكتب بلغة أخرى، وحتى صارت فنانة تشكيلية ذات حسّ مرهف، تمشي في الضوء وتمطر ألوانًا من روحها. كانت خفة فراشة، وكانت أملًا مكتوبًا على دفتر اليأس. كانت نداءً داخليًا للنجاة، وبوصلة الشعر في ظل الغربة الطويلة.
لكن اليد التي ترسم الضوء، انطفأت فجأة.
في 17 كانون الأول 2022، وفي زيارة إلى إسطنبول من” أبو ظبي”، اختطفتها يد المنون فجأة، بعيد ساعات- قليلة- من وصولها وأسرتها، دون إنذار، في غياب الوطن والمدينة واللغة.
أجل. لقد توقف قلب إيفا، كي يكون ذلك صدمة لوالديها. لأسرتها. لمحبي الأسرة إلا أن تلقي والدها للصدمة العظمى كان جد شديد. عاصفاً، قاهراً، مدوياً، مزلزلاً، إذ لم يكن رحيلاً، فحسب، بل انكساراً آخر، تسلل إلى الجسد، وأقام فيه، بعد دمار وخراب مسقط الرأس في المُليحة. بستان هشام. العنوان الياسميني في حضن غوطة دمشق. البلدة التي تحولت إلى أنقاض وقضى كتيرون من أهله تحت التعذيب أو نتيجة البراميل التي أضرمت النار في هذا المكان وسواه بالأرض، كأحد الأسر السورية المنكوبة حقاً.
منذ ذلك اليوم، صار حزنه نهرًا لا ضفاف له. صار الصمت أبلغ من كل الكلام، وصار الجسد يأخذ شكل التعب.
الخلاف العابر وذبول الضوء قليلاً على صفحة زرقاء
في تلك المدة التي كان فيها هو في الإمارات، وكنت في ألمانيا، تم خلاف عابر بيننا في الفضاء الأزرق، كان محض سحابة زرقاء عابرة، عبر صفحات الفيسبوك الباردة، حيث لا وجه يفسّر الكلمات، ولا صوت يُلطّف المعاني، بعد إيغار الإبليس الأزرق الصدور
كان منشورًا حادًّا، أو تعليقًا لم يُفهم كما أردت، أو تعبيرًا مفرطًا في الحساسية من كلا الطرفين.
تعبه كان واضحًا، وإعياؤه من صخب هذا الزمن الرقمي المؤذي تفاقم.
كتب ، في إطار الرد، بطريقة جارحة، نعم، مازلت حزيناً كلما تذكرت كل ذلك في حضرة اسم أخ أكبر ومبدع سوري أحببته حقاً، كل ما تم لم يكن سوى نتيجة مباشرة لضعف هذا العصر، ورداءة وسائل تواصله، وخذلان اللغة حين تصبح افتراضية.
مؤلم أن بعض صناع الفتنة اتصلوا به وأججوا الخلاف أكثر. هؤلاء اللقطاء من شأنهم- عادة- أن يدخلوا على- خط أي خلاف خلاف بين الأصدقاء، كي ينفخوا في النار، ويحققوا فرصتهم الكبرى في الممالقة والحضور!
في مأساة رحيل- إيفا- رثيتها كابنة لي وكانت ظلال الجفاء مهيمنة قبل أن نبددها بمعونة مقربين لكلينا ترجموا ورفعوا الغبار عن نسخة تواددنا الراسخ أصلاً.
لا ضير، لنختلف في الرأي، ولكن هذا ينبغي أن يظل ضمن إطار التفهم والتفاهم
ولأن حساننا شاعر حقيقي في روحه ونصه، ولأنه مغموس في الحياء، عبّر لاحقًا- هو الآخر- عن روحه الشاعرة، وألم اللحظة، وعن سوء هذا الزمن، الذي يجرّح حتى الأصدقاء عبر كبسة زر، دون أن يمنحهم فرصة اللمسة أو التوضيح.
صحيح أنني تألمت مثله، واحتجبت.
صحيح أن العلاقة خفتت بعض الشيء.
لكن القلب، رغم العتب، لم يتخلّ عن محبته.
ما زلت أنتظر مصافحةً مؤجلة، وجملةً تعيد ترتيب العلاقة، إن بقي في الزمن متّسع.
فالشعراء لا ينبغي أن يبتعدوا طويلاً، لأن اللغة تعرفهم جميعًا، وتعيدهم إلى بعضهم بطريقة أو بأخرى.
اليوم، ربما يجلس حسان على كرسي بعيد، محاطًا بصور إيفا، بصدى القصائد، ودفترٍ لم تُكتب صفحاته الأخيرة بعد.
لا يريد رثاءً، ولا جمهرات قراء كانت دائمة التواصل معه.
فهو لا يزال شاعرًا نقيًّا، حتى لو تعب الجسد.
لأن الأرواح الطاهرة لا تذبل، وإن طعن الجسد، قليلاً أو كثيراً، ولأن الشعر الحقيقي لا يُصاب، بل يُقاوم، ويبقى.
حسان عزت، سيظل كما عرفته دائمًا: نصًّا حيًّا يمشي بين الناس، وقلبًا نابضًا، حتى وإن اشتدّ عليه الوجع.
*
افتتح الفنان الراحل فاتح المدرس معرض الفنانة التشكيلية إيفا ابنة الشاعر وهي في ربيعها السادس في معرض بقي عالقاً في ذاكرة الشام ومحبين من بلدان عربية عديدة.
عملت إيفا في الإعلام وصدر كتابها الأول بعد رحيلها.
المصدر: الحوار المتمدن