
السوريون الدروز أقلّية مذهبية، بينما الإدارة الجديدة في دمشق تمثّل تيّاراً سلفياً سنّياً. دارت بين هذه الأقلية والإدارة معارك سابقة قبل سقوط نظام بشار الأسد، في إطار الصراع المسلّح بين مجموعات عسكرية (منها جبهة النصرة) كانت توجد في درعا والسويداء، وهناك هجوم دموي شنّه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على السويداء في 2018. ومن ثم، من الطبيعي أن تكون ثقة دروز سورية متزعزعة وتحفّظهم شديداً تجاه الإدارة. لم تسر الإدارة في خيارات إشراك الشعب منذ وصولها إلى الحكم، وهاجمت جماعات عسكرية مناطق فيها كتلة درزية كبيرة، في جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا والسويداء في أواخر الشهر الماضي (إبريل/ نيسان). كان لهذه الهجمات (قُتل بسببها قرابة مائة سوري درزي، وكان هناك انتهاكات في الأشرفية تحديداً) الدور الكبير في رفض الدروز شروط الإدارة في تسليم السلاح خاصّة. ولكن المعرفة الدقيقة لقيادات الدروز من مشايخ ومثقّفين وسياسيين بأحوال السلطة الانتقالية دفعهم إلى تقديم التفاوض، والبحث عن صلات هادئة مع دمشق، مع التحفّظ على تسليم السلاح، بينما دخلت قوات الإدارة أشرفية صحنايا، وهو ما لم يحدث في جرمانا والسويداء.
في هامش هذه التطوّرات، جاء تحذير الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط من المخطّط الصهيوني لتوظيف دروز سورية من أجل توسيع التدخّل الصهيوني في الأراضي السورية، متجاهلاً أن هذا التدخّل كان أساسياً في المشهد السوري قبل سقوط النظام، ودمّر البنية العسكرية السورية بشكل شبه كامل، وقاصداً إضعاف السلطة الجديدة بحيث لا تشكّل السلطة والبنية العسكرية تهديداً مستقبلياً لها. ومن ثم، استهدفت الضربات أخيراً إحداث مذبحة للدروز، وإغراق سورية في حرب أهلية، تجعلها غير آمنة، وتجعلها بلداً مستباحاً بموافقة دولية وإقليمية. شَكلت لغة التفاوض من الإدارة ووجهاء السويداء وجرمانا والأشرفية ضربة معلّم وطنية لمنع تلك الاستباحة، وليس موفقاً جنبلاط في اتهام السويداء بأنّها تغرّد خارج السرب الوطني، ولا سيّما الشيخ الهجري، وإذا كنّا نرفض بعض توجّهات الأخير بطلب الحماية والتدخّل الدوليين الفوريين (وقد طالب بهما السوريون في 2011 و2012)، فإن تلك التوجّهات لعبت دوراً في تغليب دمشق لغة التفاوض، والضغط على المجموعات المهاجمة للدروز من أجل إيقاف هجماتها، وشكّل هذا إنقاذاً للطرفين، الإدارة والهجري، من أن يستمرئوا الاستمرار في تصريحات وممارسات تُهدّد مصير سورية بأكملها، ولهذا مالا إلى التفاوض ورفض الانفصال أو التقسيم أو الانفكاك.
السياسة الوطنية للشعب تتعزّز بمقدار السياسات الوطنية للإدارة وللسلطة وللدولة. وعكس ذلك، يميل المجتمع إلى هُويَّاته المحلّية الطائفية، الدينية والمناطقية والعشائرية، الآن في سورية، ولأسباب متعدّدة، وسابقة ولاحقة على 2011، ولاحقة كذلك على الخلاص من الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 20124، ومنها نهج السلطة الاستئثاري بالدولة وأجهزتها، ما أدى إلى تسييس متضخم للهُويَّات الفرعية السابقة الذكر، وهناك فصائل سلفية وجهادية لم تسلّم سلاحها، وليست متّفقة مع سياسات السلطة ذاتها في استئثاريتها، وتريد المزيد منها، وأن تكون قواتها ضمن الأمن العام والجيش وإدارة شؤون الدولة. ومن ثم من الطبيعي أن تكون الهُويَّة الدرزية في أوج فاعليتها.
أخفقت الدولة الصهيونية في الاستثمار في دروز سورية، فلم ينخرطوا في مشروعها التقسيمي التفكيكي
تقتضي مشكلات سورية مرجعيةً غير سلفية للسلطة، وللدولة كذلك، وتقتضي أيضاً إيقاف سياسات فاقمت أوجه الأزمات السورية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بين الطوائف. وستتفاقم الأزمات أعلاه باستمرار المرجعية السلفية. ومن ثم، لا خيار أمام السلطة الحالية إلّا مواجهة الفصائل السلفية والجهادية، والسير نحو التصالح مع المجتمع بكلّيته.
ليس في مقدور السلطة الحسم عسكرياً، وحسناً فعلت بانتهاجها التفاوض، ولكن مكمن الخطأ (علاوة على ما ذكرناه) هو في تذرّعها بوجود فصائل منفلتة، محلّية وأجنبية، سلفية وجهادية، ومجموعات إجرامية، فتُكرّر الذريعة نفسها في الساحل، وما حدث للدروز، لتُبرّئ نفسها. يعلم السوريون كافّة أن المرحلة انتقالية، ولكن بعد خمسة أشهر من الحكم يرى أغلبية السوريين تهاوناً مع هذه الفصائل، وبعضهم يقول إن هناك تبادلاً للأدوار بين الإدارة السياسية السورية وتلك الفصائل؛ تفاوض الأولى بينما تقتل الثانية وتطيّف وتبثّ الكراهية.
لقد أخفقت الدولة الصهيونية في الاستثمار في دروز سورية، فلم ينخرطوا في مشروعها التقسيمي التفكيكي، ولكنّ مشروعها هذا سيستمرّ ما لم تقابله الإدارة بمشروع وطني، يدفع أغلبية السوريين إلى الالتفاف حولها في مواجهة هذا المشروع الاستعماري، والذي يُعلِن وبوضوح أنه من أجل “حماية الأقليات في سورية”. وكما تتحجّج الدولة الصهيونية بالأقلّيات، ولا سيّما الدروز، تتحجج تركيا بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” وبحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، وأنه وإدارته الذاتية و”قسد” يشكّلون تهديداً، ومن ثم، ستظلّ تركيا تتدخّل في الشأن السوري، وعدا ذلك، يستدعي كلّ تدخّل من إحدى الدولتَين تدخّلَ الثانية، وتصبح سورية بلداً مستباحاً، وهي كذلك منذ التحرير، فلا تكمن المشكلة في خوف الأقلّيات، بل في سياسات الإدارة الاستئثارية.
هناك تخوّفات وجودية لدى الأقلّيات الدينية والقومية، ولدى الأكثرية السُّنية، ولديها مطالب محقّة بالمشاركة في إدارة شؤون الدولة والنهوض بها
الخيار الاستئثاري للإدارة بالسلطة هو أسّ المشكلات منذ لحظة التحرير، فاستأثرت بالرئاسة ولم تجعلها قيادةً جماعيةً انتقاليةً، وكان الحوار الوطني شكلياً وبديلاً من مؤتمرٍ وطنيٍّ عام لمناقشة قضايا الدولة، وأيضاً جاء الإعلان الدستوري أقرب إلى دستورٍ دائم، ولم تتخط الحكومة الانتقالية الانتقادات التي وجّهت إلى الحكومة المؤقّتة، فجاءت بكتلة صلبة من الوزراء الآتين من الحكومة السابقة أو من قيادات هيئة تحرير الشام. والآن، يخشى السوريون أن يأتي مجلس الشعب على المنوال نفسه، مجلساً يعيّنه الشرع ومن يثق بهم من لجان.
تغيير الخيار السياسي أعلاه وإشراك الشعب وحده يشكّل بداية الشرعية الحقيقية، ويعطي السلطة قوّة ومنعة في مواجهة الشروط الدولية كافّة، وليس في مواجهة مشاريع الدولة الصهيونية أو تركيا فقط، وستظلُّ هذه الشروط قائمة، ولا سيّما العقوبات الأميركية، ما لم تسر إدارة دمشق فيما ذكرناه.
وهناك تخوّفات وجودية لدى الأقلّيات الدينية والقومية، ولدى الأكثرية السُّنية، ولديها مطالب محقّة بالمشاركة في إدارة شؤون الدولة والنهوض بها، وتُختصَر تلك المطالب بأن تنتهج السلطة سياسات واضحة تجاه الدولة المدنية والديمقراطية وفصل السلطات، والابتعاد عن المرجعية السلفية والتطييف العام، والركون إلى مبادئ المواطنة. إن المعاندة ورفض السير في هذا الخيار سيؤدّيان إلى المبالغة في تسييس مختلف أشكال الهُويَّات، وربّما إلى الحرب الأهلية. وبالتأكيد، ستظلّ سورية ساحةً للتدخّلات الإقليمية والدولية والسلطة في غاية الهشاشة والضعف. السلطة أمام خيارات واضحة، فهل توقف خياراتها الفاشلة؟
المصدر: العربي الجديد