
بسبب العدد الكبير لجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها النظام البائد بحقّ السوريين على مدى الـ14 سنة الماضية، لا بدّ من تشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية من أجل تحقيق أهداف مباشرة، وضمان تحقيق السلم على المستوى البعيد عبر تحقيق المحاسبة والعدالة للضحايا بما يمنع من عمليات الانتقام التي بدأت تتصاعد كثيراً في حمص وحلب والساحل السوري، وإعادة النقاش السياسي إلى التركيز على جرائم الأسد الفظيعة بحقّ السوريين، ولا سيّما أن النقاش انحرف كثيراً بالتركيز في ما يجري في الساحل فقط. ويتحقق ذلك عبر ما تسمّى جلسات الاستماع العمومية التي تركز على جرائم الأسد، وإنصاف الضحايا عبر إطلاق مسار رسمي يشمل الكشف عن مصير المختفين قسرياً عبر البحث عن مصيرهم، وضمان تحقيق العدالة لهم عبر التعاون مع وزارة العدل لتأسيس ما تسمّى المحكمة السورية الخاصّة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وتأسيس معادل وطني للمؤسّسات الدولية التي تشكّلت بعد بداية الثورة، مثل لجنة التحقيق الدولية المستقلّة والآلية الدولية المحايدة الخاصّة بالمساءلة الجنائية والمؤسّسة المستقلّة المعنية بالمفقودين، وكلتا الآليتين شكّلتها الجمعية العامّة للأمم المتحدة. ولذلك يجب أن تتشكّل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية نظيراً وطنياً يستطيع التعامل مع هذه الآليات، وتحقيق العدالة بالنسبة إلى كثير من أسر الضحايا في ما يتعلّق بتقدير التعويضات الضرورية الخاصّة لهم، وضمان مسؤولية نظام الأسد عن ارتكاب هذه الجرائم، وتحقيق المصالحة الوطنية هدفاً بعيداً عبر تجنّب مبدأ الإدانة العامّة لطائفة بعينها، وإنما تقديم المسؤولين الفرادى المسؤولين عن ارتكاب الجرائم للعدالة، وهو ما يفتح الباب لتحقيق المصالحة الوطنية وضمان السلم الأهلي.
العدالة الجنائية عنصر أساسي من عناصر التصدّي المتكامل للانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان في سورية
أشار الرئيس أحمد الشرع، في أكثر من خطاب له، وبخاصّة الخطاب الموجّه إلى مؤتمر الحوار الوطني، إلى تأسيس هذه الهيئة، كذلك نصّ البيان الختامي للمؤتمر المذكور على تأسيس هذه الهيئة، ونصّ الإعلان الدستوري على تأسيس الهيئة السورية للعدالة الانتقالية في مادته الـ”49″، على أن “تُحدث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين، إضافة إلى تكريم الشهداء”.
ولذلك، لا بدّ من التزام تأسيس هذه الهيئة كما وعد الرئيس في أكثر من خطاب له.
وفي معنى العدالة الانتقالية، نقول إن مجتمعاتٍ كثيرة مرّت بما مرّت به سورية، ولا سيّما في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكنّها استطاعت فيما بعد أن تخرج من تلك الفترة السوداء في تاريخها عبر فتح صفحة جديدة قائمة على الحقيقة والمحاسبة والعدالة، ومن ثمّ المصالحة، وهو ما يطلق عليه “العدالة الانتقالية”. وتشير العدالة الانتقالية إلى حقلٍ من النشاط أو التحقيق يركّز في المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية أو أشكال أُخرى من الانتهاكات تشمل جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، من أجل بناء مجتمع أكثر استقراراً لمستقبل آمن. يمكن إدراك المفهوم من خلال عدة مصطلحات تدخل ضمنه مثل إعادة البناء الاجتماعي، والمصالحة الوطنية، وتأسيس لجان الحقيقة، والتعويض للضحايا، وإصلاح مؤسّسات الدولة العامّة، التي غالباً ما ترتبط بها الشبهات في أثناء النزاعات الداخلية المسلّحة مثل الشرطة وقوى الأمن والجيش.
وهو ما حصل في تشيلي (1990) وغواتيمالا (1994) وجنوب أفريقيا (1994) وبولندا (1997) وسيراليون (1999) وتيمور الشرقية (2001) والمغرب (2004) وتونس (2011)، فمع حدوث التحوّل السياسي، بعد فترة من العنف أو القمع في أي مجتمع، يجد المجتمع نفسه، في أحيانٍ كثيرة، أمام تركة صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، ولذلك تسعى الدولة للتعامل مع جرائم الماضي، رغبةً منها في تعزيز العدالة والسلام والمصالحة. وستتركّز أهداف الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والمصالحة في عدد من البرامج الرئيسة:
أولاً: لجان الحقيقة وجلسات الاستماع العمومية: ستجمع الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والمصالحة البيانات والمعلومات الخاصّة بالضحايا، وتُشكَّل لجان خاصّة بالتحقيق في كلّ من عمليات القتل وتوثيق حالات التعذيب والاعتقال السياسي والاختفاء القسري. وستقوم هذه اللجان بتحقيقات رسمية في أنماط الانتهاكات التي وقعت لوضع سجلّ تاريخي دقيق لما وقع من الأحداث. إن إنشاء هذه اللجان المختلفة الخاصّة بالانتهاكات من شأنه أن يعمل على إنشاء أجهزة تحقيق قوية لكشف الحقائق المتعلّقة بالعنف الذي ارتكبته جهات تابعة لنظام الأسد أو جهات غير تابعة لها، بشكل غير مباشر مثل مليشيا الدفاع الوطني أو حزب الله أو المليشيات الإيرانية، التي كثيراً ما تتعرّض للإنكار أو الإخفاء.
من المفروض لهذه اللجان المشكلة أن تعمل على إثبات الحقيقة بشأن ما حدث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحقّ السوريين على يد نظام الأسد، ومحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان عبر تقديم ملفاتٍ للمحاكم والهيئات القضائية عبر تشكيل المحكمة السورية الخاصّة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وأن توفّر منبراً عاماً للضحايا، كذلك تحفّز على النقاش العام وإثرائه بشأن قضايا العدالة الانتقالية والمصالحة، وتوصي بتعويضات للضحايا عبر إيجاد حوار مباشر معهم، وتوصي بالإصلاحات القانونية والمؤسّسية اللازمة، وتعزّز المصالحة الوطنية لأنها تعمل على مستويات مختلفة أهمها المستويَين الشعبي والمحلّي، مع تنظيم عدد من جلسات “الاستماع العامّة” التي يشارك فيها الضحايا بشكل رئيس، ويتحدّثون عن معاناتهم، وهو ما من شأنه أن يكسر الحاجز الطائفي عندما تظهر الضحايا بوصفها تنتمي إلى طوائف مختلفة، ما يلعب دوراً مهمّاً في ما يسمى الشفاء الاجتماعي، بعد الحالة المرضيّة التي عاشها المجتمع السوري من استخدام العنف المكثّف أكثر من 14 عاماً.
ثانياً: رفع الدعاوى القضائية والمحاسبة: تعتبر إقامة العدالة الجنائية عنصراً أساسياً من عناصر التصدّي المتكامل للانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان في سورية، لذا لا بدّ أن ينصبّ رفع الدعوى على المتهمين من الأفراد، وينبغي أن تهدف برامج إقامة الدعوى أيضاً على استعادة كرامة الضحايا واسترداد ثقة الشعب السوري في سيادة القانون.
الهدف من الإصلاحات المؤسّساتية بشكل عام إزالة الشروط التي أدّت إلى نشوء فترة النزاع أو القمع
تشمل المحاكمات القيام بالتحقيقات واتخاذ الإجراءات القضائية ضدّ مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سورية خلال فترة الثورة، ويمكن لهذه المحاكمات استهداف المرتكبين لهذه الجرائم أو التركيز على العاملين في المستويات القيادية العليا فقط في هيكلية نظام الأسد، المسؤولين عن إصدار أوامر بتلك الانتهاكات والجرائم، أو الذين لديهم صلاحيات إدارة نافذة على مرتكبي تلك الجرائم، ولا يُستثنى من ذلك من ارتكب الانتهاكات ضدّ المدنيين ، ويتعيّن إجراء هذه المحاكمات بما يتّفق مع معايير المحاكمات العادلة في إجراءاتها، وذلك لتجنّب أي طعون في مشروعيتها.
ثالثاً: التعويضات: أمام الانتشار الواسع لانتهاكات حقوق الإنسان في سورية، أصبح لزاماً على الحكومات السورية اللاحقة، ليس التصدّي لمرتكبي هذه التجاوزات فقط، بل ضمان حقوق الضحايا كذلك. وبوسع الحكومة السورية الانتقالية أن تهيّئ الظروف الملائمة لصيانة كرامة الضحايا وتحقيق العدل بواسطة التعويض عن بعض ما لحق بهم من الضرر والمعاناة. وينطوي مفهوم التعويض على عدّة معانٍ، من بينها التعويض المباشر (عن الضرر أو ضياع الفرص)، ورد الاعتبار (لمساندة الضحايا معنوياً وفي حياتهم اليومية) والاسترجاع (استعادة ما فقد قدر المستطاع)، ويمكن التمييز بين التعويضات بحسب النوع (مادّية ومعنوية) والفئة المستهدفة (فردية/ جماعية). ويمكن أن يحصل التعويض المادي من طريق منح أموال أو حوافز مادّية، كذلك يمكن أن يشمل تقديم خدمات مجّانية أو تفضيلية، كالصّحة والتعليم والإسكان. أمّا التعويض المعنوي، فيكون مثلاً عبر إصدار اعتذار رسمي، أو تكريس مكان عام (مثل متحف أو حديقة أو نصب تذكاري) أو إعلان يوم وطني للذكرى.
أما الأهداف المتوخّاة من تدابير التعويض (مادّيةً كانت أو معنويةً)، فهي عديدة ومتنوعة، ومنها الإقرار بفضل الضحايا جماعات وأفراداً، وترسيخ ذكرى الانتهاكات في الذاكرة الجماعية، وتشجيع التضامن الاجتماعي مع الضحايا، وإعطاء ردّ ملموس على مطالب رفع الظلم وتهيئة المناخ الملائم للمصالحة عبر استرجاع ثقة الضحايا في الدولة، إضافة إلى أن مبدأ التعويضات أصبح إلزامياً بموجب القانون الدولي.
ولذلك، ستلعب الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والمصالحة دوراً رئيساً في تحديد وتقدير حجم وشكل ونوع طريقة التعويضات المناسبة والضرورية للضحايا من كلّ الأطراف من خلال عدة لجان يجب أن تشكّلها الهيئة لهذا الموضوع، منها لجنة التعويض وصيغ جبر الضرر المادّية.
رابعاً: إصلاح المؤسّسات: تحتاج سورية الخارجة حديثاً من الديكتاتورية إلى تبنّي إصلاحات تشمل مؤسّساتها وقوانينها وسياستها، بهدف تمكين البلاد من تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية البعيدة المدى، التي تعتبر ضروريةً لتفادي وقوع انهيار حضاري و/أو ديمقراطي في المستقبل. الإصلاحات المؤسّساتية بشكل عام يكون الهدف منها إزالة الشروط التي أدّت إلى نشوء فترة النزاع أو القمع. ولذلك ستسعى الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والمصالحة لضمان إصلاح المؤسّسات بما يهدف إلى إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة التي تواطأت في أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان،
وإزالة التمييز الحزبي أو الطائفي الذي يشعر بعضهم أنه مورس ضدّهم من حزب البعث في مؤسّسات الدولة، وبخاصّة الجيش والأجهزة الأمنية، ومنع مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان من الاستمرار في الاستفادة من شغل مناصب في المؤسّسات الحكومية.
خامساً: إحياء الذكرى من طريق أيّ حدث أو واقعة أو بناء يستخدم بمثابة آلية للتذكّر. ويمكن إحياء الذكرى رسمياً، مثل إقامة نصب تذكاري، أو غير رسمي مثل بناء جدارية في مجتمع محلّي، سواء كان ذلك من الدولة، أو تلقائياً من المواطنين. ويسعى الناس لإحياء ذكرى أحداث الماضي لأسباب عديدة، منها الرغبة في استحضار ذكرى الضحايا والتعرّف إليهم، وتعريف الناس بماضيهم، وزيادة وعي المجتمع، ودعم رواية تاريخية أو تعديلها، وتشجيع تبنّي الاحتفال بالذكرى وتبنّي عملية العدالة الانتقالية من مستوى محلّي.
تأتي المصالحة الوطنية تتويجاً لكلّ مراحل العدالة الانتقالية، فيستطيع المجتمع السوري أن يخرج من انقساماته الاجتماعية والطائفية العميق
إن بناء نُصب تذكاري عملية تنطوي في طيّاتها على عناصر السياسة والتاريخ والجمالية. وتعتبر النُّصب التذكارية، من حيث إنها ممارسات في عملية بناء الأمّة، جزءاً من بيئة مادّية واجتماعية يمكن أن تساعد في تحديد وبناء مفهوم مشترك للتجربة الجماعية والخيال والنظرة الذاتية لشعب من الشعوب. وتتفاعل جميع النُّصب التذكارية مع الأشخاص الذين يشتركون في إقامتها، وليس لها أيّ سلطة ذاتية، وإنما تنشّط من الناس، وهي تتوقّف في تأثيرها النهائي لإحياء الذكرى على الناس الذين يأتون لزيارتها.
لا مخرج لسورية من استحكام خروجها من الشرخ الاجتماعي العميق الذي سيعقب إنهاء الصراع المسلّح، إلا بقرار تاريخي من نمط “المصالحة الوطنية”، والمصالحة هنا تأتي تتويجاً لكلّ مراحل العدالة الانتقالية التي أشير إليها آنفاً، وعندها يستطيع المجتمع السوري أن يخرج من انقساماته الاجتماعية والطائفية العميقة باتجاه الشراكة في بناء المستقبل.
المصدر: العربي الجديد