المنطقة بين التصعيد والتهدئة عشيّة زيارة ترامب

أمجد أحمد جبريل

يعكس تأجيل الجولة الرابعة من المفاوضات الأميركية الإيرانية (كانت مقرّرة في 3/5/2025)، احتدام سباق التصعيد والتهدئة في إقليم الشرق الأوسط، عشية زيارة الرئيس دونالد ترامب دول الخليج، منتصف مايو/ أيار الجاري.

وعلى الرغم من بروز تيار إقليمي يريد “التهدئة/ التسويات” في المنطقة، (يشمل عُمان وقطر والسعودية، بالإضافة إلى مصر والعراق وسورية والأردن وتركيا وإيران)، فإن حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرّف، بزعامة بنيامين نتنياهو، لا تزال تسعى إلى “التصعيد” بغية تحقيق هدفين متكاملين؛ أحدهما توسيع دور إسرائيل الإقليمي، عبر توظيف الأوضاع غير المستقرّة في غزّة ولبنان وسورية. والآخر جذب موقف واشنطن صوب دعم سياسات إسرائيل أكثر فأكثر (وبالتالي، التأثير على السياسات الأميركية في المنطقة، خصوصاً تجاه إيران وتركيا والسعودية ومصر).

وفي إطار تحليل سباق التصعيد والتهدئة في الشرق الأوسط، بعد جولات المفاوضات الأميركية الإيرانية الثلاث، ودور الأطراف غير المباشرة فيها، خصوصاً الفاعليْن الإسرائيلي والعُماني، وانعكاسات المفاوضات على الأمن الإقليمي إجمالاً، ولا سيما على حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، ثمة أربع ملاحظات؛ أولاها تتعلق بمستجدات سياسة إدارة ترامب تجاه الإقليم، ومدى اختلافها عن سياسات إدارته الأولى (2017 – 2020)، ولا سيما في رغبته (أو عدم رغبته) في ضبط سلوك الفاعل الإسرائيلي، قبل أن تجرّ السياسات الإسرائيلية (المدعومة أميركياً) المنطقة برمتها إلى سيناريو “الفوضى الإقليمية الشاملة”؛ إذ سيؤدّي ترك واشنطن الحبل على الغارب لحليفها الإسرائيلي إلى نتائج خطرة عدّة؛ أولاها تضييع فرصة إنجاز التطبيع السعودي الإسرائيلي التي يحلم بها سيّد البيت الأبيض لتعزيز حظوظه في الحصول على جائزة نوبل للسلام، وثانيتها احتمال توتّر العلاقات الأميركية التركية بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سورية، من دون مراعاة مصالح أنقرة وحساسياتها في المشرق العربي، وثالثتها احتمال الاندفاع الأميركي نحو ضرب إيران عسكريّاً بمشاركة إسرائيلية، ورابعتها توتير العلاقات مع مصر والأردن، بسبب إصرار واشنطن على تهجير أهالي غزّة.

تهدئة واشنطن مع طهران وحلحلة عقدة الملف النووي الإيراني، لا تعني بالضرورة انحياز إسرائيل نحو تهدئة حروبها واعتداءاتها الممنهجة في فلسطين ولبنان وسورية

ويبدو أن ثمة قلقاً استراتيجياً إسرائيلياً متنامياً، قد يدفع تل أبيب إلى أحد قراريْن؛ توجيه ضربة جوية “محدودة” لإيران، ربما في أواخر مايو/ أيار؛ أي بعد جولة الرئيس ترامب الخليجية، علماً أن واشنطن يمكن أن تستفيد من الضربة الإسرائيلية تفاوضيّاً في تكثيف الضغوط على طهران. أو قبول تل أبيب بما تقرّه واشنطن من تفاهماتٍ مع إيران مقابل حصول إسرائيل على مساعدات عسكرية وتعويضات بغية حفظ تفوّقها الاستراتيجي على دول الإقليم، كما فعلت الدبلوماسية الإسرائيلية مراراً وتكراراً مع أغلب الاتفاقيات التي أبرمتها واشنطن مع دول المنطقة.

وعلى الرغم من تشابه السياسات الأميركية والإسرائيلية تجاه كثير من ملفات الإقليم، فإن تهدئة واشنطن مع طهران وحلحلة عقدة الملف النووي الإيراني، لا تعني بالضرورة انحياز إسرائيل نحو تهدئة حروبها واعتداءاتها الممنهجة في فلسطين ولبنان وسورية، بل ربما يكون التصعيد الإسرائيلي “المتدحرج” هو السيناريو المرجح في الشهور القليلة المقبلة، مع التأكيد على أمريْن: أحدهما أن العامل الإسرائيلي يستطيع تعطيل الصفقة الأميركية الإيرانية لبعض الوقت، دون منعها بالمطلق، ناهيك عن عجز إسرائيل عن فرض تطبيق النموذج الليبي في تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل. والآخر أن إسرائيل لا تزال تحاول التأثير على تحالفات واشنطن الإقليمية في هذه المرحلة الانتقالية المفصلية التي يمرُّ بها النظامان الإقليمي والدولي، من إعادة تشكيل إقليم الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب أوزان القوى والفاعلين الإقليميين، بعد تصور نتنياهو أنه نجح في تحجيم حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني على نحو يسمح له بإملاء شكل التسويات التي يريدها اليمين الإسرائيلي.

تتعلق الملاحظة الثانية بالدبلوماسية الإيرانية ومرونتها التكتيكية، عبر تطبيق سياسة “الانحناء للعاصفة”، تجنباً لأي تصعيد عسكري مع إدارة ترامب، على الرغم من استمرار مستوى الحرب الكلامية/ الخطابية بين طهران وتل أبيب، في إطار سعيهما لجذب الموقف الأميركي والتأثير على قرار الرئيس ترامب، وصولاً إلى محاولة تغيير سياسات واشنطن الإقليمية في هذه المرحلة الحرجة.

وعلى الرغم من تصاعد مسار الصراع الإيراني الإسرائيلي تدريجيّاً، وانتقاله إلى مستوياتٍ مباشرة، بعد انتهاء مرحلة “صراع الظل”، فإن المقاربة الإيرانية لا تزال تفصل بوضوح بين موقفها من ترامب وردّها على إسرائيل خطابياً (وعسكرياً، عند الضرورة)، بالتوازي مع استمرار طهران في انتهاج سياسة التحوط الاستراتيجي “Strategic Hedging” (عبر توسيع علاقاتها الخليجية والإقليمية والصينية والروسية والأوروبية)، لمواجهة الضغوط الأميركية.

بات إقليم الشرق الأوسط يقف على مفترق طرق خطير، سيقوده إلى تكريس حالة التصعيد والصراعات الممتدة، أو الانحياز إلى مستويات من التهدئات/ التسويات التكتيكية

تتعلق الملاحظة الثالثة بزيادة انخراط الدول الخليجية في الجهود الدبلوماسية الرامية لإبعاد شبح الحرب عن إقليم الشرق الأوسط، بالتوازي مع تصاعد وزن العامل الخليجي العربي الإقليمي في الدفع نحو “التهدئة/ التسويات” الإقليمية، كما يظهر من عدّة مؤشّرات (تغير المواقف السعودية والإماراتية نحو إدراك مخاطر أي ضربة عسكرية على إيران بالنسبة لأمن منطقة الخليج العربي واستقرارها. زيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران ولقاؤه بالمرشد الأعلى علي خامنئي (17/4/2025). نشاط الدبلوماسية التركية في قطر والخليج وسورية. زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الدوحة. زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع أبوظبي. المناورات العسكرية المصرية التركية (21- 29/4/2025) على الأراضي التركية).

والأرجح أن محصّلة هذه المتغيرات تزيد مساحة الأداة الدبلوماسية وأدوار الوساطة في الصراعات الإقليمية والدولية (ولا سيما أدوار عُمان وقطر والسعودية)؛ إذ تحاول الرياض التوسّط في الصراع الباكستاني الهندي المتجدّد، والصراع الروسي الأميركي حول أوكرانيا، بالتوازي مع تقلص هامش مناورة الدور الإسرائيلي، نتيجة استحالة ترجمة آثار تفوقه العسكري الكاسح إلى مكاسب سياسية في المدى البعيد، بسبب عجز الجيش الإسرائيلي عن حسم صراعاته مع حركة حماس وحزب الله والحوثيين.

تتعلق الملاحظة الرابعة بانعكاسات هذه المفاوضات على الأمن الإقليمي وأوزان القوى الإقليمية عموماً، وعلى حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة خصوصاً. وعلى الرغم من احتمال تصاعد التوتر في العلاقة الشخصية بين ترامب ونتنياهو، ولا سيما بشأن النووي الإيراني، فإنه لن يطاول أسس العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، التي تبقى التحالف الأقوى لواشنطن في إقليم الشرق الأوسط.

 تصاعد وزن العامل الخليجي العربي الإقليمي في الدفع نحو “التهدئة/ التسويات” الإقليمية، كما يظهر من عدّة مؤشّرات

وإلى ذلك، تلعب عوامل انعدام الثقة بين الطرفين الأميركي والإيراني، وعودة واشنطن إلى فرض العقوبات، وتجديد سياسة “الحد الأقصى من الضغوط”، فضلاً عن سياسة التخريب الإسرائيلية، دوراً في تعطيل الوصول إلى صفقاتٍ سريعة (ولو كانت جزئية)، ولربما ينطبق ذلك أيضاً، بصورة أقل، على بقية الملفات الإقليمية، ولا سيما حرب غزّة والتغوّل الإسرائيلي على لبنان سورية، ما لم يحدُث تغير جوهري في عاملين رئيسين؛ أحدهما الدعم الأميركي المفتوح لسياسات اليمين الإسرائيلي في الإقليم، والآخر هو المواقف العربية والتركية من هذا التمدّد/ التغول الإسرائيلي؛ إذ لا تزال أنقرة والعواصم العربية تُحجم عن ممارسة ضغوط حقيقية على واشنطن لوضع ملفات غزّة وسورية ولبنان على طاولة التفاوض مع واشنطن، ولا سيما قبل زيارة ترامب دول الخليج في منتصف مايو/ أيار.

يبقى القول إن إقليم الشرق الأوسط بات يقف على مفترق طرق خطير سيقوده إلى تكريس حالة التصعيد والصراعات الممتدة، أو الانحياز إلى مستويات من التهدئات/ التسويات التكتيكية. وعلى الرغم من وضوح تحوّل إسرائيل “عبئاً استراتيجيّاً” على سياسات واشنطن في المنطقة، فإن احتمال انحياز ترامب للرؤية الإسرائيلية يبقى وارداً، ما يعني عدم استبعاد الانحدار نحو سيناريو الفوضى الإقليمية الشاملة، علماً أن التأثير التراكمي للسياسات الأميركية/ الإسرائيلية يؤدّي إلى تفكيك “الشرق الأوسط القديم”، وتعقيد صراعاته، وإبعاده عن الحلول والتسويات، من دون يقين كامل بشكل النظام الإقليمي الجديد، الذي يبقى مفتوحاً على خيارات صعبة، سيكون أحلاها مرّ، بسبب أحلام تيار اليمين الإسرائيلي المتطرّف، الذي بات يستعيد أفكار “الصهيونية التصحيحية” لزئيف جابوتنسكي؛ إذ يؤمن نتنياهو بالضغط العسكري والسحق والتدمير وسيلة وحيدة لتحقيق الأمن الإسرائيلي، ما يؤكّد أن السياسات الإسرائيلية بعد هجوم 7 أكتوبر (2023) لم تكن ردّاً على الهجوم، وإنما تنفيذاً لسيناريوهات تهجير مخططة سلفاً، تعكس العنف البنيوي المفرط، الملازم للمشروع الصهيوني في جميع مراحل تطوره.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى