في ضرورات إعادة بناء منظمّة التحرير

أحمد غنيم

لم تطوِ الضرورات التي تدعو إلى إعادة بناء منظمّة التحرير الفلسطينية واستعادة طليعيتها في قيادة المشروع الوطني صفحة استحداث موقع نائب الرئيس للجنة التنفيذية للمنظمة، فالمقالات ما زالت تغطي صفحات الصحف والموقع الإعلامية، كما صفحات التواصل الاجتماعي، التي في غالبها تعبّر عن موقفٍ يرفض الإذعان للضغوط الخارجية وتغييب الديمقراطية وإرادة الشعب الفلسطيني عن القرار. ما يعتبر استمراراً لسياسة استمرّت أزيد من 18 عاماً، بعد استحواذ الرئيس على كل السلطات في المنظمة والسلطة وتعطيل الانتخابات وحل المجلس التشريعي وسلب إرادة المجلس الوطني، ما يجعل أي عملية انتقائية أو جزئية تحت ذريعة الإصلاح مجرّد حلقة في سلسلة تفكيك الشرعية الوطنية.

لا تقتصر أزمة المنظمة على جزئية استحداث موقع نائب الرئيس، وهذه الجزئية فاقدةٌ للضرورة الموضوعية، فحسب النظام يمكن للجنة التنفيذية حال شغور الموقع أن تشغله بشكل تلقائي، بل أزمة منظمة التحرير، إضافة إلى أبعادها السياسية والتنظيمية والإدارية والوطنية تعود إلى انكار الحقائق التالية.

أولاً، أصبحت منظمة التحرير، وعلى خلفية التطورات السياسية التي فرضها إنشاء السلطة الفلسطينية وتوقيع اتفاق أوسلو، خارج وظيفتها حركة تحرّر وطني، فلا يمكن لحركة تحرّر وطني تأخذ تفويضها للحكم من الاحتلال أن تحافظ على دورها وموقعها هذا، لأن قانون العلاقة مع الاحتلال في حركات التحرّر يقوم على الاشتباك، وليس على التعايش والتنسيق. الاعتراف بهذه الحقيقة هو الشرط الأول لاستعادة دور المنظمة موقعها في قيادة عملية التحرّر الوطني وقيادة المشروع الوطني.

الواقع العربي الحالي ليس فقط منقسماً على مركزية القضية الفلسطينية، بل تخلّى، في جزءٍ كبير منه، عن فكرة التحرير، وانخرط في عملية التطبيع مع الاحتلال

ثانياً، تنتمي المكوّنات الداخلية لمنظمة التحرير لعصر ولّى ولم يعد موجوداً. وإن استمرار إنكار هذه الحقيقة يجعل منظمة التحرير تعيش خارج السياق التاريخي للواقع الاجتماعي والسياسي الفلسطيني. بل هو الوصفة المباشرة لاستمرار الانقسام، حيث تغيرات هائلة دخلت على الواقع الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، برزت فيه قوى اجتماعية وسياسية جديدة، وضعف دور قوى اجتماعية وسياسية أخرى، واختفت استطالات عديدة للنظام العربي في بنية منظمة التحرير. في حين اختفت تلك الأنظمة من الواقع العربي، بينما ظلت استطالاتها تشغل مواقعها ووزنها في بنية المنظمة. ما لم تعترف قيادة المنظمة بهذه الحقيقة الصلبة، سيبقى سؤال تمثيل المنظمة كل الشعب الفلسطيني يهدّد وحدة التمثيل التي يجب ألا تختلّ، خاصة في ظل التغيرات الخطرة المنحازة لاستراتيجية صهيونية أميركية تستسهدف تجاوز القضية الفلسطينية ودفع المنطقة إلى التطبيع مع دولة الاحتلال.

ثالثاً، جاء تأسيس منظمة التحرير ضمن واقع عربي مختلف، وعلى الرغم من اختلافات مكوناته وأنظمته العربية فيما بينها على غير قضية، إلا أن ظهور منظمة التحرير الفلسطينية تحت الشرط العربي، مدّها بأسباب القوة، رغم الاختلافات ضمن النظام العربي، الذي كان يُجمع على مركزية القضية الفلسطينية وفكرة التحرير. بينما الواقع العربي الحالي ليس فقط منقسماً على مركزية القضية الفلسطينية، بل تخلّى، في جزءٍ كبير منه، عن فكرة التحرير، وانخرط في عملية التطبيع مع الاحتلال، ولا يمكن أن نتجاهل دورنا في هذا التغيير، حيث إن توقيع اتفاق أوسلو فتح هذا الطريق الذي منح أنظمة عربية بعينها، كانت تبحث دائما عن التخفف من مسؤولية القضايا القومية خاصة القضية الفلسطينية، بل إن بعضهم استبدل العداء بالتحالف مع دولة الاحتلال وتماهيها مع روايتها وانخرط معها في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وغطّى حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني بسياسة الصمت السلبي. وأحياناً المشاركة بالتصدّي لهجمات المقاومة ضد الاحتلال. الأمر الذي يدعو القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني إلى العمل على استنهاض القوى الشعبية والقومية العربية. ولن يكون هذا ممكناً في ظل الإنقسام الفلسطيني والاختلاف على مفهوم المقاومة والبرنامج الفلسطيني، ما يتطلّب الاتفاق على المبادئ الأساسية للرؤية الفلسطينية، التي تُجسّد وحدة الشعب ووحدة القضية وتقوم على المبادئ التالية: وحدة الوطن، وحدة الشعب، وحدة النظام السياسي، وحدة الاستراتيجية الوطنية، وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال.

لا تستهدف حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني فقط دفعه إلى الإختلاف على مفهوم المقاومة، بل نزع شرعيتها

رابعاً، لا تستهدف حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني فقط دفعه إلى الاختلاف على مفهوم المقاومة، بل نزع شرعيتها والتخلي عن حقه فيها الذي كفلته الشرعية الدولية، ليس هذا وحسب، بل دفعه إلى التخلّي عن فكرة التحرّر والاستقلال، والاستسلام للواقع وللرؤية الصهيونية في خياراتها الثلاثة التي نصّت عليها خطة الحسم الصهونية تلك التي أعلنها سموتريتش ويجري تنفيذها علىى الأرض حالياً، وتفرض على الفلسطيني أن يختار الهجرة من فلسطين أو العيش فيها حياة العبيد أو الموت.

يدعو هذا الواقع الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية إلى التمسّك بخيار المقاومة حقاً للشعب الفلسطيني، لا المساومة عليه، واستعادة الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير، التي يجب أن تستعيد دورها حركة تحرّر وطني، وقيادة لعملية التحرّر الوطني. وإذ نختلف مع كثيرين ممن أخذوا قضيتنا الوطنية إلى هذا الواقع، نجدنا مطالبين أولا وقبل اي شيء بالوحدة ضمن رؤية وطنية تحافظ على وحدانية تمثيل منظمة التحرير الشعب الفلسطيني، باعتبارها جبهته الوطنية الجامعة، وقائدة عملية التحرّر الوطني. ومن هنا، أتوجّه إلى الرئيس محمود عبّاس ومن أجل مواجهة كل الضغوط، وتصليب الموقف الوطني، والخروج من سياسة الهروب إلى الأمام غير المجدية مرّة تلو المرّة، إلى الدعوة إلى لقاء وطني فلسطيني جامع، على أساس إرادة فلسطينية موحّدة في مواجهة الضغط الخارجي، تضع حداً للانقسام وتفتح الطريق نحو إعادة بناء منظمة التحرير على أسس وطنية ديمقراطية، إن هذا ليس فقط هو طريق الخروج من الأزمة الوطنية والسياسية، بل إنه الخيار الأفضل الذي يساعد الرئيس نفسه على مواجهة الضغوط الخارجية، ويضع الرئيس في موقع قيادة عملية التغيّر الآمن في النظام السياسي بشكل ديمقراطي، تُنقل فيه السلطات من خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أسس ديمقراطية وطنية، عوضاً عن الانسياق إلى المسار الذي يتم تصميمُه للتخلّص من الرئيس الفلسطيني نفسه بداية، وتقويض النظام السياسي الفلسطيني وتصفية الحركة الوطنية، واستمرار حرب الإبادة والخطر الوجودي الذي يتهدّد القضية الفلسطينية.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى