بطولات المقاومة الفلسطينية

علي أنزولا

يجب ألّا نخجل من الافتخار بشجاعة مقاتلي المقاومة الفلسطينية وبطولتهم في غزّة، لأن ما يسطّرونه يومياً من أعمال بطولية سوف يسجل في سجل الشجاعة النادرة التي لا تتكرّر كل يوم. كما ينبغي ألّا ننتظر حتى تأتي الشهادة والاعتراف من الآخر، إسرائيلياً أو غربياً أو أجنبياً بصفة عامة، لأن الواقع على الأرض يشهد كل يوم على أن المقاومة الفلسطينية تفوّقت على كل المقاومات في عصرنا الحديث، من حيث التخطيط والتنفيذ والإقدام والشجاعة والصمود والصبر. من حرب فيتنام والجزائر مروراً بحروب التحرير في أميركا اللاتينية وحرب التحرير في جنوب أفريقيا وحتى المقاومات التي ظهرت في لبنان وأفغانستان والعراق إبّان الغزوين، الإسرائيلي والأميركي، هاته الدول، فلا مجال للمقارنة بين إنجازات كل أولئك المحاربين مع ما باتت تختزله اليوم المقاومة الفلسطينية من شجاعة وصمود نادر ومن وتخطيط وإصرارٍ فريدٍ من نوعه.

في كل الحالات السابقة، كان المقاتلون في فيتنام والجزائر وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا ولبنان وأفغانستان والعراق يجدون السند والعون من دول ومنظّمات وهيئات إقليمية ودولية، والأسلحة والذخائر تتدفق عليهم من كل حدب وصوب، تساعدهم الجغرافيا الشاسعة لبلدانهم، وتتحالف معهم التضاريس المعقدة والمتنوّعة والمختلفة في دولهم المكوّنة من أدغال وجبال وصحاري قاحلة وأحراج وعرة، عكس حالة المقاومة الفلسطينية اليوم في قطاع غزّة التي تقاتل شبه عارية في شريط ضيق لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا، كلها أراضٍ مكشوفة حوّلها القصف الهمجي طوال 20 شهراً إلى دمار هائل، تراقبه الأقمار الاصطناعية وطائرات التجسّس آناء الليل والنهار، يتحرّك فوقه وتحته مقاتلون شجعان بلا إمداد أو إسناد وأحيانا كثيرة بلا طعام، عمقهم الاستراتيجي الوحيد إيمانهم بقضيتهم وتحمل وصبر حاضنتهم الشعبية رغم كل الدمار والمآسي التي يكابدونها يوميا في تحد وجلد تحسدهم عليه كل الشعوب الحية.

صمود رجال المقاومة بلا طيارات ولا مدرّعات ولا دعم خارجي أو داخلي، وغالبا بلا أكل أو شرب والاستمرار في القتال طوال هذه المدّة، أمر يفوق قدرة التحمّل البشري

يكفي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، بكل فصائلها، أنها ما زالت تقف بشجاعة وثباث في معركةٍ غير متكافئة على جميع الأصعدة، معركة طويلة الأمد مفتوحة على الأفق، وعلى كل الاحتمالات، ‏ضد عدو مدعوم ومحمي من أكبر الدول وأقواها، جيشه يملك أحدث الطائرات بكل أحجامها وأنواعها والصواريخ المدمّرة بكل أوزانها والدبابات المحصّنة والمدرّعات القوية، ومدجج بأكثر الأسلحة الفتاكة دقة وتطورا وتدميرا تتدفق عليه من جميع أنحاء العالم، وجُنده مكون من العشرات من فرق الجيش المدرّبة مدعومة بأقوى الاستخبارات في العالم من إسرائيل وأميركا وبريطانيا.

وصف المقاومين الفلسطينيين بالشجعان أو الأبطال حسب مقاييس الشجاعة والبطولة في عالم اليوم حيفٌ كبيرٌ في حقّهم، لأن صمود هؤلاء الرجال بلا طيارات ولا مدرّعات ولا دعم خارجي أو داخلي، وغالبا بلا أكل أو شرب والاستمرار في القتال طوال هذه المدّة، أمر يفوق قدرة التحمّل البشري، وقد تعجز معاجم اللغة عن إيجاد تعابير صادقة أو أوصاف حقيقية لمقاتلين نذروا حياتهم للقتال حتى الاستشهاد أو النصر. مقاتلون حفاة، ومقاتلون مغاوير يحمل أحدهم العبوة الناسفة ويتقدّم واثق الخطى حتى يضعها على الدبابة ويختفي في لمح البصر قبل أن تنفجر وتفجر الدبابة التي كانت تعتبر أقوى المدرعات طرّا، ومفخرة الصناعة الحربية الإسرائيلية.

ما يجري في الواقع هجوم وحشي ضد مدنيين عزّل أغلبهم من النساء والأطفال

زهاء عشرين شهرا ونيفا وهؤلاء الأبطال يقاتلون ببسالة وشجاعة وثبات، لم نشاهد مقاتلا واحدا يستسلم أو يهرب من أرض المعركة، بل العكس هو الذي حصل، مقاتلون يحملون أسلحة رفاقهم الذين استشهدوا بالقرب منهم ويواصلون القتال حتى الاستشهاد. مثل هذه البطولات الخارقة كنّا نسمع بها أو نقرأ عنها في كتب التاريخ، لكن المقاومة الفلسطينية حوّلتها إلى مشاهد ومقاطع فيديو شبه يومية حيّة تنقلها بالصوت والصورة والشرح، إمعانا في تأكيد الحضور وتوقيع البطولة التي يعترف بها العدو قبل الصديق، كما سبق أن شهد بذلك وزير الدفاع السابق ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، بني غانتس، عندما صرّح مرّة قائلا: “علينا أن نكون صادقين وأن نقول إننا قاتلنا ضد رجال شجعان”. كان هذا التصريح في موجهات سابقة قبل تلك التي جاءت بعد 7 أكتوبر (2023)، وسجلت فيها المقاومة الفلسطينية ورجالها بطولات نوعية يصعب تصنيفها ضمن سجل البطولات التي سجلتها كتب التاريخ.

في مقابل مشاهد البطولة التي تسجلها كاميرات الإعلام الحربي للمقاومة الفلسطينية، ماذا نرى؟ نرى إبادة جماعية ينفذها جيش مدجّج بأحدث الأسلحة وأكثرها تدميراً وفتكاً، قتل فيها حتى الآن أكبر عدد م الأطفال مقارنة بعدد الأطفال الذين قتلوا في حروب أخرى. وحتى تسمية ما يجري حرباً خدعة كبيرة، لأن ما يجري في الواقع هجوم وحشي ضد مدنيين عزّل أغلبهم من النساء والأطفال يتم الهجوم عليهم ليلا، وإحراقهم داخل خيامهم وهم نيام وتجويعهم حتى الموت. هذه كلها جرائم حرب يعاقب عليها القانون الجنائي الدولي، وتدينها كل شرائع الأرض والسماء.

بعيداً عن حسابات الربح أو الخسارة السياسية والاستراتيجية، وبعيداً عن كل أبواق الدعاية الصهيونية التي تشيطن المقاومة الفلسطينية أو تبخّس بطولاتها، الثابت الآن أن هذه المقاومة بكل فصائلها هي التي تنتصر، وهو نصر معنوي يتجسّد في عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن كادت أن تختفي أو تموت. قد تخسر المقاومة الفلسطينية عسكريا معركة غزّة لكن فكرة المقاومة والروح القتالية التي أظهرها عناصرها، انتصرت وجذوتها ستبقى خالدة تتوارثها أجيال كل المقاتلين الأحرار من أجل الحرية. ما انتصر اليوم هو الفكرة، فكرة إرادة القتال من أجل استعادة الحقّ في العيش بكرامة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى